“يمين، يسار، مرة ثانية يمين يمين، طريق طويل سييدة، بعد التقاطع، البقالة في زاوية منزل أم خالد.”يحاول موسى برأسه الصغير استذكار محل البقالة الذي ذهب له مع والده قبل يومين. تعيد والدته تكرار طلبات المنزل فوق رأسه ليحفظها، لم يتعلم القراءة بعد. تقول وهي تعد بأصابع يدها العشرة أمام وجهه:”قشطة، عسل، صامولي، ببسي، جبن، خبز، صابون يدين، ولا تنسى أهم شيء الشاهي” يهز برأسه إيجابًا. تقفز اخته التي تصغره بسنة واحدة بجانب أمه، تردد هي بدورها بعضًا من الطلبات :”أنا أبغى بعد عسكريم أبو خمسة” تتفاجئ اخته بضربه من أمها على رأسها:”من قال لك عندي فلوس تكفي؟ روحي ارجعي اجلسي مكانك” تحول بعينيها المسودة بالكحل إلى موسى مجددًا:”إياني وإياك تنسى غرض من الأغراض، رح ركض وأرجع ركض قبل يجي أبوك” يهز برأسه مجددًا لكن بشكل أسرع، يبتلع ريقه مفكرًا بأصعب جزء من مهمته، العودة قبل مجيئ والده.
يرتدي نعاله الجلد السوداء، متشققة الجانبين، يخرج جزء من قدمه منها، لكنه يعيد ارتداءها بشكل عنيف. تتبعه والدته إلى باب الشارع، واضعة يدها على كتفه، تخبره بأنها ستضع مزلاج الباب لكيلا تضطر إلى الجلوس منتظرة. سيكون الباب مفتوحًا عند عودته، لذلك يحبذ ألا يطرق الباب، أو يرن الجرس، تحسبًا لو سبقه والده بالعودة. تكرر والدته الطلبات فوق رأسه مجددًا، يهز رأسه، توصيه بأن يتجنب الحديث مع أي شخص، خصوصًا صاحب البقالة، خوفًا من ذكرهم له أمام أبيه.
يمشي أولى خطواته بالشارع مبتعدًا عن المنزل، يتوقف ويلقي نظرة على باب المنزل، اختفت والدته، هو وحده، وقائمة طلبات تجلس فوق رأسه، وهلع يجري وراءه، وفرح طفيف يدور حوله بأول مهمة خارجية.
تذكر وصية الركض، انطلق راكضًا، يحاول تذكر الاتجهات، يغض بصره عن جميع من حوله، الشوارع مليئة بالحياة، أولاد يتسابقون بالدراجات، وآخرون يتحلقون على الأرض في منافسة مصاقيل. رائحة اسمنت من البيت المجاور، محاولة ترميم بعد بناء مخطط فاشل، توقف للحظات أمامه لتأمل العمالة التي تعمل بدون توقف، غير آبهين بمجموعة الفتيات اللاتي جلسن على كومة الرمل أمام المنزل يتدحرجن عليها، أراد مشاركتهم، خطا أول خطوتين نحوهم، تذكر فجأة والده، رجع أدراجه راكضًا، يهلث، يسعل، تطير نعلته اليمنى، يطأ مجموعة من الحصوات الصغيرة، تؤلمه باطن قدمه، يقفز على قدم واحدة إلى مكان هبوط نعلته، يرتديها بعد تأوهات عديدة، ويستكمل ركضه.
لا تزال الشمس ساطعة، لكن آذان المغرب ليس ببعيد، الآذان هو علامة انتهاء المهمة، يجب أن يكون في المنزل عند آذان المغرب.
توقف في منتصف التقاطع، يتأمل المارة، سيارات، دراجات، دبابات، فجأة كل الأشخاص يشبهون والده، كلهم يلقبون بأبو موسى، كلهم معهم عصي، كلهم يحملون منديلًا في يدهم اليمنى، سيارة هايلوكس تمر أمامه، بنفس الرقم المرسوم على سيارة والده 2700 على جانب السيارة، فوق العجلة، تمشي ببطئ متجهة نحوه، أراد لو أن تبتلعه الأرض، أن يسقط في حفرة المجاري أمامه، أن يختفي بلا أثر، أحس بخيانة مثانته، ستنفجر في أي لحظة، أطرق برأسه للأسفل، يتمتم:”يارب إنه موب أبوي يارب إنه موب أبوي يارب إنه موب أبوي” يرفع عينًا واحدة، يراقب السائق وهو يقود نحوه، توقف السائق أمامه، أخرج رأسه من النافذة:”هلا والله بموسى ولد محمد، وش اخبارك؟ وش مطلعك بهالشموس؟ وش أخبار أبوك؟ وينه؟ وراك لحالك؟ عسى ما شر؟” سيل عارم من الأسئلة التي لم يعرف كيف يجيب عليها، لم تطلعه أمه على دفتر الإجابات، لم يتدرب على حالة الطوارئ هذه، هل يهرب؟ يجيب؟ يخترع قصة؟ ظل صامتًا. شرع يسأله الرجل ذو الغترة البيضاء والمسواك العريض:”وراك ساكت؟ تبي ترجع البيت؟ ولا تبي تروح مكان؟ اركب معي أوديك” رد موسى بغير حول منه ولا قوة:”أمي معطتني فلوس تبي أغراض من البقالة”.
ركب موسى في المقعد الأمامي، لم يعتد على الركوب فيه، إحساس رائع، يستمر الرجل بالحديث ويستمر موسى بالتفكير بروعة المقعد الأمامي. تتوقف السيارة فجأة أمام بقالة غير التي أراد الذهاب إليها، كبيرة، وبعيدة عن منزله، لكنه دخلها على أية حال.
وضع أصابعه العشرة أمام وجهه، يحاول عد الطلبات لكنه لم يستطع، يسفط إصبعًا محاولًا تذكر غرض واحد على الأقل لكنه لم ينجح، ينظر إليه صاحب الغترة البيضاء من نافذة السيارة، يحاول جاهدًا معرفة ما سيشتري لأم موسى. يحاول موسى ألا يقابله بنظرات الضياع لذلك يدير بظهره له. أخيرًا توجه موسى راكضًا إلى الفريزر، أخذ عسكريم أبو خمسة ودفع ثمنه، أحس بالانتصار لأنه تذكر على الأقل طلبًا واحدًا من طلبات والدته، وخرج مبتسمًا.
يعود للمنزل، يلوح له صاحب الغترة البيضاء ويقول:”سلم لي على أبوك” يفتح الباب ويزيل المزلاج، يغلقه بهدوء، ويدخل للمنزل، يبحث عن سيارة والده، لكنها لم تكن موجودة، تعاود الابتسامة وجهه، يركض للمطبخ، يمد الكيس البلاستيكية الزرقاء لوالدته، تقفز اخته وتمسكها بدلًا منها وتصرخ ضاحكة:”عسكرييمم!!” ينتهي بموسى الأمر يأكل عسكريم بلون الكولا وبطعم الدموع.