تغلق الباب الحديدي الصدئ خلفها بقوة، تركض بلهفة إلى الطابق العلوي، تصرخ والدتها باسمها تذكرها بأن عليها أن تبدّل مريول المدرسة قبل البدء بأي شيء آخر، لكن تشغيل الكمبيوتر المكتبي أهم بالطبع من المريول.
يأخذ تشغيله واستعداده للعمل ربع ساعة كاملة، بالإضافة لبعض الطقطقة الشبيهة بعد تنازلي لانفجار قنبلة موقوتة. تضغط زر التشغيل البارز في وسط الجهاز الشبيه بصندوق معدني كبير من الخردة والغبار، وتدخل كلمة المرور التي تتكون من عشرين حرفًا لكي لا يستطيع أخوها الأصغر الدخول إلى حسابها، وتذهب أخيرًا لتبديل مريولها. تعود لتجد أن الجهاز لا زال يقوم بالاستعداد للعمل، تفكر بشيء تقوم بعمله لتمرير الوقت، وتتذكر بأن الورقة التي سجلّت فيها اسم الموقع الذي أوصته به صديقتها في شنطتها المدرسية، ذهبت لتحضرها وهي تتمطى ليضيع المزيد من الوقت ريثما يقوم الجهاز بالعمل.
عادت وقد أحضرت الورقة الصفراء المربعة الصغيرة بيد، وكيسًا من رقائق الجبن في اليد الأخرى، ما الأفضل من كيس رقائق الجبن قبل الغداء؟ تفتح متصفح قوقل وتكتب بتهجئة بطيئة لكل حرف:”ألعاب أبو فهد” هذا ما أخبرتها به صديقتها في المدرسة، ألعاب أبو فهد شهيرة وكثيرة جدًا، بحيث أنها ستقضي سنة كاملة بالتعرف وحصر الألعاب الموجودة من كثرتها. ابتسمت لتلك الفكرة، وشرعت بالتصفح بحثًا عنها.
وفي صفحة التحميل للملف المضغوط للألعاب امتلأت الشاشة بالإعلانات المنبثقة. حذرّها والدها من الانخداع بتلك الإعلانات، وقال لها بإنها إن كانت تريد أن يتعطل حاسوبها فيتوجب عليها الموافقة على واحدة من مربعات الحوار تلك، وبما أنها لا تريد العيش بدون حاسوب، فقد نجحت بتفادي كل الإعلانات المثيرة والعجيبة التي سبق وأن ظهرت لها، ولكن فجأة ظهر أمامها الإعلان التالي:” حياتك مملة أليس كذلك؟ مللت من الانتظار والترقب؟ مللت من منزلك الصاخب وعائلتك الفضولية؟ لا شيء أفضل من أن تقوم بتبديل هذا كله بغمضة عين! قم بتحميل صورة الشخص الذي تريد استبدال حياتك معه، وانتظر المفاجئة!”
ابتسمت لمجرد تخيّلها لنجاح فكرتها، أن تعيش بديلة لصديقتها المقربة، هذا ما تمنته طوال حياتها! أدخلت بطاقة ذاكرة صغيرة تحوي صورًا عديدة في الجهاز، تشترك هي وصديقتها باستخدام تلك الذاكرة، وتحوي بعضًا من ذكرياتهما معًا، تقوم بالنقر على الإعلان وتفتح الصفحة، تجد العديد من الخانات الفارغة وتقوم بملئها، اسمها وأين تسكن وعمرها، صورتها وصورة
صديقتها، تضغط تحميل، ومن ثم موافق. يظهر شريط تحميل ونسبة مئوية بجانبه، تفرقع أصابعها وتنظر إلى درج المنزل، تحسبًا لصعود أحد من عائلتها، انتهى التحميل، لكن.. لا شيء.
يظهر مربع حوار بمنتصف الشاشة وينص على “تم التحميل، حظًا موفقًا!” لكن لاشيء! تقوم بإعادة تحميل الصفحة، تملأ الخانات الفارغة مجددًا، تضغط تم، تفزع من صوت الإنذار الذي صدر من الجهاز، ويظهر مربع الحوار التالي”عذرًا، لا تمكن إعادة الاستخدام مرة ثانية” تقوم بسّب الموقع، وسب الجهاز، وسب صديقتها، تغلق الصفحة، وتعود لألعاب أبو فهد التي تم تحميلها للتو. مرّ اليوم كأي يوم عادي آخر، غداء، واجبات منزلية، قيلولة، صراخ، عشاء، اللعب بالحاسوب والمشاجرة عليه مع إخوتها، برنامج ما قبل النوم وأخيرًا النوم.
استيقظت فجرًا بلمسة ناعمة على خدها، وهذا ما لم تعتد عليه من الصراخ، تفتح عينًا واحدة لترى ما الذي يلمس خدها بالضبط، وانقبض قلبها لرؤية يد بيضاء ناعمة تلمس خدها، وبدون إنذار قبلة سريعة على نفس الخد، ترجع للوراء، تغطي جسمها كاملًا حتى ذقنها بالبطانية، وتمسح بيدها ما تبقى من القبلة على خدها، تسمع ضحكة خفيفة وصوت هادئ يخبرها بأن عليها أن تستعد الآن للمدرسة، تراقب الجسد النحيل يبتعد شيئًا فشيئًا خارجًا من باب الغرفة، تمسك رأسها، وتطيل النظر بالباب، تمسك رأسها بهلع، شعرها.. شعرها ذو كثافة وحجم وملمس لم تعهده من قبل، تقوم بعمل حركة دائرية بيدها على رأسها، لتتأكد من أنه فعلًا رأسها، تلقي نظرة على ملابسها، لا تستطيع تمييزها بسبب ظلمة الغرفة لكنها تستطيع الجزم بشكل حازم أنها لم ترتدي هذه البجامة في حياتها قط، تنهض لتبحث عن مرآة، تجدها بالقرب من باب الغرفة، مرآة مربعة معلقة على الجدار، تنظر لنفسها بشكل كامل، جوارب سوداء ذات قلوب بيضاء، بجامة بنية، وشعر أجعد قصير، ووجهها بالطبع لم يكن يخصها ككل شيء آخر ترتديه، كانت تمتلك وجه صديقتها المقربة، وملابسها، وحياتها.
قامت بتشغيل المصباح المعلق فوق رأسها، توقفت لدقائق معدودة تفكر بالذي سيتوجب عليها فعله، جاءت نفس المرأة التي قامت بتقبيلها سابقًا وفتحت الباب بلطف، تسألها إن استيقظت بعد، وأنه يتوجب عليها الآن الذهاب لدورة المياه لكي لا تتأخر عن الفطور. اتضح لها بأن هذه هي والدة صديقتها، أو والدتها هي الآن، أو حتى الوقت الراهن. خرجت من الغرفة تحاول إيجاد دورة
المياه، وكانت ستسأل عن مكانها إلا أنها تذكرت بأنها من المفترض تعرف مكان دورة المياه التي تذهب إليها كل يوم بصفتها أحد سكان هذا المنزل. حاولت تذكر حديث صديقتها عن منزلهم، تذكرت عندما أخبرتها صديقتها عن قصة الصرصار الذي خرج من دورة المياه فجرًا لمهاجمتهم، تذكرت وصف دورة المياه وذهبت إليها أخيرًا. استطاعت تدبّر كل شيء تحتاج فعله صباحًا من دون أن تجعل سلوكها مثيرًا للشك، لكنها لم تستطع تحمّل تناول الفطور بذلك الهدوء، مع ذلك الرجل خصيصًا، الذي كان أو بالأصح أصبح والدها من الآن فصاعدًا. يقوم والدها الجديد بإطعامها وإطعام والدتها في أثناء حديثهم، يضحك ويمازحهم، وكأنه شيء طبيعي تمامًا! يسألها لما هي هادئة هذا الصباح، ويتفقد حرارتها بلمس جبينها، جفلت بعض الشيء من يده، مما دعاه للاستغراب وسؤال والدتها إن كان كل شيء على ما يرام. حاولت التملص منهم بقولها أن الباص قد وصل أخيرًا لدى الباب، إلا أن والدها أوقفها قائلًا بأنها قد نسيت القيام بشيء، وبعد العديد من
التلميحات، قامت بتقبيل خده وركضت خارجًا نحو الباص الذي توقف للتو أمام الباب الخارجي.
تفكر بصديقتها التي سرقتها، هل ستنزعج؟ وكيف هو الحال في بيتهم؟ هل استطاعت التأقلم؟ هل شعر والداها بغيابها؟ تقرض أظافرها في الطريق إلى المدرسة ورأسها مليئ بالتساؤلات. وفي مكان تجمعهم اليومي في الساحة ترا نفسها قادمة، أو نفسها السابقة بالأصح، تشعر بالغرابة، تمسك طرف مريولها وكأنها تستنجد به، أشبه بالحلم، تلتقي أعينهما، وترا صديقتها تبتسم لها.
تخبرها صديقتها بأن كل شيء في منزلهم على ما يرام، يبدأ سيل الأسئلة المعتاد، ماذا تعشيتم بالأمس؟ متى استيقظت؟ ماذا شاهدتي على التلفاز؟ وكأن الإجابات ستتغير في يوم ما. لم يتغير شيء، ويبدو بأن صديقتها لا تعلم عن أي شيء أيضًا، وهي نفسها الوحيدة الشاهدة على ما حدث وعلى ما سيحدث. تعاقبت الأيام، صراع مع التعود على العيش بمفردها، صراع مع الهدوء والمحبة. هذا ما أرادته طوال حياتها، أن تنعم بالهدوء وأن يغمرها الحب من كل مكان، لكن لماذا لم تشعر بعد بالسعادة؟ تنهض يوميًا بتثاقل، تستقبل قبلات والديها الجدد بضيق، تمسحها سريعًا بكف يدها، شعرها الأجعد يتطلب الكثير من العناية، وليس كما تخيلته تمامًا، رائحة عطرها قوية لا تستطيع النوم بسببها، وأخيرًا بجامتها ناعمة ومفرطة في النعومة إلى أنها تنزلق من على جلدها، وهذه إحدى كوابيسها، أن تنزلق من ملابسها أثناء نومها.
في أحد الصباحات المدرسية، وفي مكانهما المعتادة في الساحة، ترى علامة زرقاء على عضد صديقتها، على جسمها السابق، واتضح لها بأن تلك العلامة كانت من والدها، فقد قام بقرصها إلى أن ازرّق جلدها، والسبب يعود إلى أنها لم تستطع إيجاد قبعته التي طلبها منها. لم يقرصها والدها في جسدها السابق أبدًا، لأنها تجيد التملص منه، ولكن عندما رأت صديقتها تعاني، حزمت أمرها.
قامت بتشغيل جهاز الحاسب الموجود بغرفتها، بحثت عن الإعلان، وسجلّت البيانات، وضعت صورتيهما وضغطت موافق، ابتسمت، وذهبت للنوم. استيقظت في اليوم التالي وقد تم شدّها من شعرها من اختها الصغرى، غطاء مفرشها مفقود، والصراخ يشتد في المطبخ. ركضت إلى المرآة الموجودة في دورة المياه، ووجدت جسدها قد عاد إليها أخيرًا، لا مزيد من القبلات ولا الكلام معسول.