أتذكر تلك العطلة، عطلة منتصف الفصل، انتهى الفصل الدراسي بنجاحي بجميع المواد، الرقم واحد يتمخطر أمام كل مادة، وباجتماع دخول العقرب الثالثة والعطلة، لا تتوقف الكشتات، كشته مع والدي، كشته مع عمومتي، كشته مع خالاتي، كشتات لا تنقطع حتى انتهاء العطلة.
أما ذلك اليوم، فكانت كشتة مع خال والدي وعائلته المتفرعة. تتهلل أسارير جدتي من الفرح، أبناءها وأحفادها وأخيها وأولاده وأحفاده، لا تتمنى أكثر من ذلك، ولا أنا أيضًا، فسيكون لدي أكثر من مجموعة للعب من ضمنها، الكثير من البنات، والمزيد من الأولاد، ألعاب لا تنقطع، وحروب لا تتوقف.
من بين جميع الكاشتين، لا يوجد من هو في نفس عمري سوى فتاة واحدة، ابنة أخ جدتي، خال والدي، والتي تكون لذلك ابنة خالي. لا أراها إلا مرة واحدة في السنة، ولا أتفق أنا وهي كثيرًا، لا نتكلم كثيرًا في الأصل، فهي صامتة أغلب الأوقات، وتكتفي بالابتسام حينما أحاول خلق أي حديث معها. بيضاء، ووجها مليء بالشامات التي تزيدها جمالًا، شعرها أسود حريري تمنيت كثيرًا بأن أستيقظ من نومي وأجده على رأسي، تمتلك قصة شعر غريبة، كأنها قصة أولاد خالتي لكنها تمتلك طابعًا أنثويًا، أو هي من جعلتها أنثوية، لا أعلم. ترتدي دائمًا ملابس مميزة، وفي كل مرة أحاول منافستها تصدمني بخروجها عن المألوف، وبينما كنت أريد إبهارها بتنورتي الوردية المكشكشة، كانت ترتدي شيّالاً من الجينز الفاتح، وبلوزة خضراء قصيرة الأكمام، وحذاء ذو حبال يمنعني والداي من لبسه، خشية من عمليات إعادة الربط المتكررة.
لعبت كثيرًا، تشقلبت على التراب، ضربت والدتي رأسي لأنني ملأته بالتراب، لعبت بالطين، ملأت أظافري بجانب شعري بالتراب الرطب، بنيت قلاعًا وضحكت كثيرًا. وخلال هذه الأنشطة كلها، لم تشاركني فيها ابنة خالي، فكانت تكتفي بالمراقبة من أعلى الكثيب الرملي القريب، ممسكة دمية محشوة تشبهها.
ذهبت إليها بدون أي رفقة، لم أردهم أن يحرجوها ويمنعوها من الكلام، رحبّت بي بابتسامة كعادتها، جلست بجانبها ممدة أرجلي أمامي كما تفعل هي، فبدونا كالتوأم المختلف، لوسيان وواين.
ألتفتت إلى جهتي بغتة وقالت:”معي طائرة ورقية، تبين نطيرها مع بعض؟” وأنا التي لم أرَ طائرة ورقية في حياتي وافقت بحماسة، ليس لفكرة تطييرها، وإنما لأول نشاط يجمعني بابنة خالي غريبة الأطوار.
ذهبنا إلى سيارة والدها الجمس، وحتى هذه اللحظة، أفكر في شيء واحد، كيف لهذا الجمس أن يسع لأبناء وأحفاد وإخوة؟ وأحيانًا أقارب وأصدقاء، في كل مرة أشاهد نزولهم منه، أفكر هل ينفجر الجمس من كثرة الركّاب؟ أم أنه يحمل أماكن سريّة لا يعلمها سوى السائق؟
أخرجت طائرتها الملونة، ازدهرت بالأزرق والأصفر والأحمر، أستطيع رؤيتنا نحلّق بواسطتها، لم أخبرها برغبتي بحملها رغم ارتعاشة حماسي، لم أجرؤ لإخبارها بأنني لم ألمس طائرة قط، هل ستستمر علاقتنا إن اخبرتها بذلك؟
نظرت لي بابتسامة وقالت:”تدرين لو نمشي بعيييد ما راح نضيع؟ لأننا بنطيّر الطيارة ويشوفوننا وما راح نضيع أبد، تبين نجرّب؟” أخبرتها وقد ابتسمت بدوري لعظمة الفكرة:” إيه أكيد!” ومشينا أنا وهي، في الجهة المعاكسة للجلسة، مشينا ومشينا ومشينا، إلى ان اختفت الجلسة تمامًا عن مدى رؤيتنا الضئيلة، ولم نكن قد طيّرنا الطائرة بعد، وبعد أن أخبرتها وأنا أواري توتري وخوفي خلف ابتسامتي:”ترا صرنا بعيدين مرة، ما ودّك نطيرها الحين؟” قامت بفك الحبل، رفعتها ولم تحلق، قفزنا، ركضنا، دعونا، ولم تحلّق، شارفت على البكاء، نظرت إلي وقالت:”خفتي؟ لا تخافين مستحيل نضيع” قلت:”لا ما خفت بس ياالله تبين نرجع؟” قالت:”ياالله”
حاولنا معرفة طريق العودة، إلا أن الرياح كانت أسرع وأدهى، قامت بمسح كل آثارنا، توقفنا وتبادلنا النظرات، لم أبكي، ولم تبكي هي، آثرنا الصمت على الحديث، فمشاعرنا كانت واضحة على وجوهنا، وكنا كمرايا لبعضنا البعض، أعكس خوفها وتعكس خوفي. إلا أن خوفها كان غامضًا، لم أعرف مما كانت تخاف، فكان خوفي جليًا بموتي، خشيت الموت إثر الضياع، بينما هي فخشيتها كانت مخفية عن الأنظار.
وفي منتصف ضياعنا الفكري والمكاني، سمعنا صراخًا قويًا، لم تتضح ماهية الكلمات المقذوفة، ولكنها كلمات، أثر للحياة، خيط رقيق ينقذ من الموت والضياع. اقتربت الكلمات من الوصول إلينا، واقتربنا نحن من إيجادها. أخوها الأكبر وأختها التي تكبرها بعامين، يصرخون باسمها، توقفت حينما رأت ثوبه الأبيض فوق الكثيب بجانبنا، أمسكت يدي، وهذه كانت المرة الأولى التي تمسك يدي فيها، التفت إليها ولكنها لم تعرني اهتمامًا، وكأنها أمسكتني بغير وعيٍ منها، وعلمت تمامًا لماذا…
صرخ أخوها حينما اقتربنا منه:”وينتس فيه الله يكنستس، قاطعتي لعبي للكورة وخليتني أصارخ أدورتس، الله يشغلتس، امشي قدامي”