تصنّف المخاليط إلى متجانسة وغير متجانسة، وأنا مجرد مخلوط متجانس خفيف. أنا وعاء زجاجي كبير، تخلط فيه المحاليل، سواء كانت محاليل غاضبة، سعيدة، حزينة، بألوانها المختلفة وسماكتها، تمتزج كلها فيّ، إلى أن تتجانس. أحيانًا يكون تجانسها سريعًا بحيث تخلط كلها بعصا التحريك لدورة أو دورتين، وأحيانًا يستغرق مزجها أيامًا، لكنها في النهاية هي أنا، وهي ما تكونني، سواء اخترت أنا أن أضيفها إلى مخلوطي، أو هي اختارت القدوم إلي.
تنسكب مشاعر الناس إلي انسكابًا، لا أستطيع إيقافه، تغريدات، مقاطع، أحاديث، تعابير، وحتى النظرات، كلها لا تمر أمامي مرورًا عابرًا، وإنما تلمسني، تمتزج فيني، وتصبح أنا.
مع تقلبات مزاجي الكثيرة بسبب ما أراه وأسمعه، اخترت الهروب بكل ما تعنيه الكلمة، أهرب في كل مرة أشعر بأنني سأتأثر بما يجري حولي وأمامي، أحمي مخلوطي من سوائل غليظة صعبة الاندماج، إن لم أكن قادرة على إغلاق الصنبور، فعلى الأقل سأحرك وعائي الزجاجي الثمين جانبًا.
أحزن كثيرًا بسبب قيامي بإلغاء متابعة بعض من زميلاتي في مختلف مواقع التواصل؛ بسبب كثرة منشوراتهن الثقيلة، فأنا ليس لدي سلطة على ما ينشرن، ولا أستطيع مساعدتهن في ما يحاربن، لذلك أهرب سريعًا من أن تختلط مشاعرهن فيّ، أخاف تحولي إلى نسخة أخرى مشابهة لهن، أخاف على نفسي من نفسي، من مشاعري، من أن أؤذى من نفسي.
يقال بأن الهروب هو الوجه الآخر للجبن، بينما أدعوه بالخيار الأشجع، أن أعلن انهزامي، أن أقرر أن أقطع صلتي بالكثير من الأشياء لأجل نفسي، ما هو إلا شجاعة من نوع آخر، نوع أكثر خطورة، قد يؤدي للعديد من النتائج التي كان من الممكن تجنبها في حال اخترنا الصبر.
لطالما كرهت كيف للأشياء من حولي أن تتحكم فيّ، كيف لنبرة صوت واحدة أن تطرحني أرضًا، تجلس فوقي، وتلكمني بقبضتها، لكنني الآن أدعوها بميزة بدلًا من ابتلاء، أن أشعر بما يحس به الطرف المقابل من أحاسيس، سواء عبّر عنها أو لم يعبر، تجعلني أقرب، أدفئ وأحن.
مهمتي بأن أحافظ على امتزاج مخلوطي، وعلى لونه الأصفر المشع، تزاد صعوبة يومًا بعد يوم، خصوصًا بعد سهولة وسرعة انتشار الوسائط المتعددة، نص كئيب هنا، ومقطع مخيف هناك، وحديث قلق من أمامي وخلفي، كل هذه تجعلني أبحث عن زر الهروب بشكل دائم. ومما لاحظته فإن النصوص الحزينة تلاقي رواجًا أكبر من غيرها، ولا أعلم لما في الحقيقة، وقد لامست هذا بنفسي، فقصصي ونصوصي الحزينة تلاقي رواجًا أكثر من غيرها. هل نحن أبلغ وأوضح بالتعبير عن حزننا؟ أم اعتدنا عليه لدرجة لا نرى غيره؟ أم أننا نخاف هروب فرحنا في حال الكشف عنه؟ أسئلة كثيرة تسترعي مني البحث.
كوني محطة مشاعر ووعاء لا ينضب، فإنني أحاول كثيرًا أن استوعب كوني ذلك، ألا أفيض، ألا أنكسر، ألا أغرف ما فيّ وأسكبه بوعاء شخص آخر، ألا أفرط في التحريك، ألا أتحول من اللون الأصفر إلى الأسود. وهذه ليست محاولات هيّنة، أو سريعة، فهي تستغرق وقتًا وصبرًا، وبحثًا غير منقطع في أغوار نفسي وغيري، والأهم من ذلك تقبّل نفسي كما هي، وألا أطلب منها أن تتغير.