اكتب هذه الأسطر بينما أذناي ونصف انتباهي موجّه لحصة لغتي وقطعة الإملاء لأخي، وها قد أخبرني بأنه يحمل الكتاب الخطأ،
سأذهب لأبحث عن كتاب لغتي وأعود مجددًا.
تدوينة عمرها شهرٌ كامل، من بداية الشهر الميلادي ديسمبر وحتى يومه الثامن والعشرين وأنا أفكر بهذه التدوينة، وها أنا أكتبها وبنصف انتباهي، لكنني أتمنى بأن تولد على الورق كما تخيلتها لشهر كامل. قرأت في هذه السنة أربعة وأربعين كتابًا، وهذا العدد يشكل فارقًا عن السنة الماضية، في السنة الماضية قرأت ٦٤ كتاب، وكنت بصدد إكمال العدد إلى السبعين، إلا أن الوقت داهمني واخترت الاستسلام عن هدفي السنوي بدلًا عن القراءة السريعة لمجرد تحقيق هدف.
السبب الرئيسي في زيادة ونقصان عدد قراءاتي هو تحدي القودريدز. كنت في كل سنة أزيد عشرة كتب في التحدي عن السنة السابقة، وعند وصول العدد إلى ثمانين قررت عدم الدخول في التحدي، لعدة أسباب. أولها وأهمها هو قراءتي السريعة لمجرد إنهاء الكتاب وزيادة رقم في شريط التحدي، فكنت أقرأ بسرعة وأقفز فقرات فقط لكي لا أتأخر عن موعد إنهاء الكتاب. اختياري للكتب يتجّه للأقل صفحات، وملاحظاتي وتأملاتي في المواضيع المقروءة لا يعطى الوقت الكافي، فأنتهي من الكتاب بدون تذكر بعض الفقرات أو بعض الأحداث من القصة، كنت كمن يسبح بدون أن يأخذ نَفَسًا كافيًا، أرفع رأسي لأستنشق الحياة، إلا أنني لا آخذ ما يكفيني منها. مع بداية سنة ٢٠٢١، قررت عدم المشاركة في التحدي نهائيًا، سأقرأ بدون حدود، وبدون خطوط حمراء وقلق من فوات الأوان. ونتيجة لذلك، قرأت عدد أقل من العادة، لكن بكفاءة أكثر.
وسأذكر هنا أجود اثنا عشر كتاب قرأتها خلال إثنا عشر شهرًا.
شهر يناير
كتاب موجز تاريخ الدماغ والروح لـ ماتياس إيكولد
أخذت قراءته مني قرابة العشرين يومًا، أسلوب الكاتب فيه من البلادة الشيء الكثير، وصادف أن يناير كان بداية إجازة منتصف الفصل، فلم يكن لدي الوقت الكافي لقراءته مع الزيارات واللقاءات، إلا أن كل دقيقة وساعة قضيتها في قراءته كانت بمثابة قنبلة معرفة تنفجر في عقلي. حقائق وتفاصيل تاريخية مثيرة للاهتمام، وأجوبة عن أسئلة تتراود على أذهاننا غالبًا. استمتعت بالقراءة عن حيرة الفلاسفة في مكان الروح، وكيف تدرج التفكير فيها إلى عصرنا الحالي. وهل نحن أجهزة تعمل بالكهرباء؟ وهل نستطيع تحويل الدماغ إلى جهاز كمبيوتر؟ تجارب كثيرة أحزنتني على الضفادع، وقصص تجارب تكاد تكون غير قابلة للتصديق، وأخصّها ليوناردو دافينشي وتشريح الجثث، وقصة فينياس وعصا الحديد التي اخترقت جمجمته. اقتباس من الكتاب لنتيجة أحدى التجارب:
“يقوم بويرلي بتقطيع عضلات حيوانات كثيرة وهي ما تزال تحت الماء. إلا أنه كلما كرر التجربة لا يلاحظ أي أثر لفقاعات الهواء في الماء. الاستنتاج واضح: الروح الحيواني ليست بالمادة الغازية”
شهر فبراير
مكتبة منتصف الليل لـ مات هيغ
قمت بتحميل هذا الكتاب فور توَفره على الكندل، ويا لا سعادتي حينما أتذكر قراءتي له قبل أن يترجم للعربية وقبل أن يلاقي شهرته التي يلاقيها الآن، سواء من المجتمع الغربي أو العربي. لطالما كرهت الأسلوب المباشر بإلقاء -أو بالأحرى بصق- الأفكار الإجابية على القارئ أو المستمع على حدٍ سواء. وهذا الكتاب أستطيع وصفه بأنه أكبر طاقة إيجابية بالحياة. إلا أنه يزرعها في القارئ زرعًا، على غير دراية، وهذا ما أفضله. حيث ينتهي القارئ من الكتاب وهو يشعر بأنه بحالة أفضل، مستعد للنهوض والمحاولة من جديد، وهو لا يعلم بالضبط كيف له أن أصبح بهذا النشاط والإقدام. القصة ببساطة عندما تمر نورة-بطلة الرواية- بمكتبة منتصف الليل، الطريق ما بين الموت والحياة، لتجرب العيش في أي حياة كانت لتعيشها لولا اتخاذها لقرار ما. قصص عديدة، لحيوات عديدة لنورة، تختار عيشها وتجربتها قبل أن تموت.
“عليك تتذكري أن هذه فرصة نادرة و أننا نستطيع محو أي خطأ ارتكبناه، لنعيش أي حياة نريدها، أي حياة، اخلقي أحلامًا كبيرة … يمكنك فعل ما تريدين لأنكِ في حياة واحدة، أنتِ ما تريدين”
شهر مارس
أم النذور لـ عبدالرحمن منيف
هل أحتاج حقًا للحديث عن الكتاب؟ المعروف لا يعرف، وعبدالرحمن منيف غني عن التعريف، وروايته هذه أعادت
ربطي بكل ذكريات الطفولة. مع أنني لم أدرس مع كتاتيب، أو كتيبات؟ لكن مشاعر البطل هي حتمًا مشاعري، وقد
عشت حتمًا بعضًا من زوايا حياته. سامح وبداية ذهابه لتعلم القراءة والكتابة، وبداية تعرّفه على مجتمعه. يخوض عراكه الأول مع الحياة في مع بداية تلقيه لدروسه، فهل انتصر أم انتصرت عليه الحياة؟
“السرير يرتفع، يصطدم بالسقف، يسقط على الأرض، أتشبث بالفراش، بالعوارض، لا أريد أن أسقط. وتمتد يد أمي تمسح العرق، وتردد كلمات غامضة… أريد أن أصرخ، أن أنام، أن أركض. أن أدمر الكتّاب وأدوس الشيخ. أن أبصق في وجه الحاج درويش. أن أشتم أبي. لا أريد شيئًا. لا أريد أن أذهب إلى الكتّاب!”
وفي هذا الكتاب اكتشفت أنني قد كتبت نص مشابه لعبدالرحمن منيف، وهذا ما زاد حبي للكتاب.
شهر أبريل
مسرحية موت البائع المتجول لـ آرثر ميلر
كانت هذه إحدى المسرحيات التي توجب علينا قراءتها في مادة الرواية والمسرحية الأمريكيتان. ولم أتوقع بأنني سأعجب بشيء يتم تقريره علي، وليس هذا وحسب وإنما متبوعًا بدرجات! لا زلت أتذكر اليوم الذي شاهدت به المسرحية، كان في نفس وقت عرض موكب نقل المومياوات المصرية، حيث اقتطعت المسرحية لرؤية البث الحي للموكب والآداءات الغنائية المصاحبة. قصة المسرحية تتمحور حول الحلم الأمريكي لكل مواطن أمريكي. السعي والبذل وراء المال والعيش بحياة رغيدة تنعم بها الزوجة بكل الأجهزة الكهربائية التي تريدها، ويلعب الأطفال بحديقة خلفية مليئة بالألعاب ويذهبوا لجامعة عريقة. إلا أن هذا كله لم يحدث لبطل الرواية وعائلته الصغيرة المكون من ولدين وزوجة. وإنما ظل يلاحق حلمه إلى أن خسر الكثير. أتذكر هذا الاقتباس جيدًا، أردت الكتابة عنه في الاختبار إلا أن الدكتورة لم تسأل عنه، أطلت التفكير فيه، ووجه الممثل وهو ينطق بذلك السطر لم يفارق ذهني حتى هذه اللحظة، والأشد مرارة بأننا ما زلنا نواجه هذه المشكلة حتى وقتنا الحاضر. يقول الابن الأكبر لوالده بعد أن احتد الحوار بينهما على سبب فشله بكل الوظائف:
“لم أستطع الوصول إلى أي مكان بسبب نفخك لي بالهواء الساخن، ولذلك لم أستطع تحمّل أخذ الأوامر من أي أحد”
شهر مايو
هما لـ غازي القصيبي
بينما كنت أرتب الكتب اليوم، لم أستطع إيجاده، ويا لحسرتي إن كنت قد أعطيته لأحد، لأنني لا أتذكر ماذا فعلت به..
بلا فصول ولا وقفات ولا أجزاء، ينهمر الحوار انهمارًا، حوار بين رجل وامرأة، عن كل شيء وبكل شيء. الذي يقال والذي لا يقال. إبداع فني كتابي فلسفي لا يقارن بأي عمل آخر.
“هي: قد تكون الانسانة العادية إنسانة غبية. المرأة الذكية ترفض أن تكون مجرد هامش في حياة إنسان آخر، حتى لو كان عبقري العباقرة. المرأة الذكية تحيا بكل لحظة من حياتها وتترك التاريخ للمؤرخين، ولأحذية فان جوخ القديمة.”
شهر يونيو
الدجاجة التي حلمت بالطيران لـ صن مي هوانغ
راودتني شكوك عديدة حول محتوى الرواية، هل هي فعلًا عن الدجاج؟ أو إن الدجاجة رمز لشيء آخر؟ هل ستستحق وقتي؟ لكنني أؤمن بجودة الأدب الآسيوي لعدة تجارب ناجحة خضتها سابقًا، لذلك قمت بتحميلها على الكندل وشرعت بقراءتها مباشرة. لم أشعر بالأسى والحزن في حياتي على دجاجة كما شعرت بها على الدجاجة إبساك، مسكينة هي، ومسكين ابنها.
دجاجة لديها أحلام عديدة، أولها الخروج من القفص والحرية، إلى الأمومة، وأخيرًا الطيران. الرواية قريبة بفكرتها من مزرعة الحيوان إلا أنها بعيدة تمام البعد عن الجو السياسي، وتمحورت بشكل كامل حول المجتمعات وسيطرة الهرم المجتمعي والمكانة وأخيرًا الأمومة. انهيت الكتاب بجلسة واحدة، قصة مناسبة لجميع الأعمار.
“لا أعلم لما حياتي صعبة هكذا، هل يحصل معي هذا لأن لدي حلمًا؟”
شهر يوليو
بيت لـ أحمد الحقيل
قصص قصيرة متنوعة عن القفزة والتغير المجتمعي السعودي. شخصيات عديدة رأيت خلالها عمومتي وأقربائي ومعارفي. تفاوتت القصص من مذهلة إلى عادية وهذا طبيعي، وقصص من الهامش مليئة بالإبداع إلا أنها غريبة قليلًا وتحتاج وقتًا كافيًا للهضم. وللمرة الأولى أقرأ عملًا أدبيًا حدث جزء منه في مدينتي، ووصف لبعض الأماكن الموجودة فيها، لكنني أستطيع الاحساس بعدم تقبّل الكاتب للزلفي، وتصريح بعض الشخصيات لكرههم لها، ولذلك سأشن الحرب، وسأنتقم للزلفي من المجمعة وهي مقطن رأس الكاتب.الاقتباس:
“الموت في أكثره ليس عن الموتى، وإنما عمن حولهم”
شهر أغسطس
حي بن يقظان لـ لابن سينا وابن طفيل والسهرودي بتعليق
وتحقيق أحمد أمين
خمسة نجوم لكتابة ابن طفيل، واربعة لمقدمة أحمد أمين. أما ابن سينا فقد ركض بعقلي بكلماته العربية الممزوجة بالفارسية ليل نهار بدون أن أفهم حرفًا واحدًا. وأما السهروردي فقد أحسن صنيعًا في كتابته. قصة حي بن يقظان والذي كنت أظنها تتحدث عن حي من أحياء الدنيا اتضح أنها تتحدث عن قصة رجل اسمه حي بن يقظان. ليتل دو اي نو …كتاب فلسفي ديني رائع، يجيب على كل الاسئلة، ويقرّب الفلسفة للدين، وأنهما وجهان لعملة واحدة، وأن الفلسفة على غير ما ورد عنها، تساعد على فهم الدين بشكل أفضل. حيث الغرض من تحريمها فهو لا ينم إلا عن الخوف والرهبة. بالرغم من اللغط والحقائق المجهولة الغائبة عن القصة الحقيقية إلا أن القائمين على هذا الكتاب انحزوا جهدًا عظيمًا في توضيحه، وتوضيح مصادره، وذكر الآراء الأقرب للصحة عنه ويشكرون على ذلك. حي بن يقظان، الطفل الذي رضع من غزال، وعاش وحيدًا في جزيرة، يكتشف الحياة الروحية والجسدية بنفسه عن طريق الفلسفة. يرمز له ابن سينا بأنه العقل، وابن طفيل يرمز له بأنه الانسان نفسه بحثًا عن الحقيقة، والسهروردي الذي يرمز له بأنه الانسان الذي يبحث عن الحقيقة بعناء إلى ان وصل إلى ربه.تتوجب قراءته مرارًا لفهم أحداثه المنسكبة انسكابًا هائلًا.
شهر أغسطس
ثلاثية نجيب محفوظ
تناقضات وانسجام، تساؤلات وإجابات، موت وحياة، إيمان وعصيان، مشاعر عديدة اجتاحتني أثناء قراءة هذه الثلاثية، وأفكار أخرى كثيرة، عشت مع العائلة صباحاتهم الهادئة، خبزهم الساخن، ومخللهم وفولهم، وقبل ذلك فرحهم وسعادتهم.
أحمد عبدالجواد الذي يذكرني بصرامته بوالدي، وأمينة تذكرني بوالدتي بحنانها وعطفها، وكمال بأخي الأصغر، ربما ازددت ترابطًا بهم بسبب تشابههم معنا؟ لا أعلم ولكنهم كانوا حقيقين جدًا، قريبين للمس. أفضل ثلاثية قرأتها حتى هذه اللحظة.
لا أعلم كيف أصف مشاعري بعد إنهائي لآخر جزء من الثلاثية، أتمنى لو كنت أم دميعة لأبكي، لأن الغصة في حلقي تأبى الخروج. في صغري فكرت كثيرًا بكسر شاشة التلفاز لأستطيع الدخول ومساعدة ولقاء الكثير من الشخصيات، وها أنا الآن، أتمنى تمزيق الغلاف لأدخل قصر أحمد عبدالجواد وأساعد كمال، لأحضن عائشة، ولأتضارب مع خديجة.
كمال السياسي، الكاتب، المتدين حينًا والملحد في أحيان أخرى، الأعزب، والعاشق، والشاك في نفسه، وفي كل شيء.
لا أعلم لما ولكنني تعلّقت به بشدة، ربما لقرّبه لحياة كل شاب، الفوضى التي نعيشها في مراهقتنا، ومستقبلنا وحاضرنا وقراراتنا المصيرية التي لا ترحم، كل شيء يُقرر لنا، وفجأة يتحتم علينا أن نختار، ولا يوجد من يفهم أو يدعم إلا من رحم ربي. أحمد عبدالجواد الذي دعيت من كل قلبي أن ينتقم منه ربي، وعندما انتقم منه فعلًا بكيت.. وصف نجيب لآخر أيام الأب وسرده لحياته التي انقلبت رأسًا على عقب، والشيخوخة التي ألمت أبكتني.كررت كثيرًا”الله يعينني على حقي” كما تقول جدتي.
“إن لم يكن للحياة معنى، فلم لا نخلق لها معنى؟!”
شهر سبتمبر
شرق المتوسط لـ عبدالرحمن منيف
كتبت في مذكراتي بعد قراءتي للرواية :”ممتنة لعبدالرحمن منيف لتنويري” وأعتقد هذي الجملة كافية عن كل تعليق آخر. إذا كانت الكلمات سلاح، فهذه الرواية أفتك سلاح. هذه الرواية تشن حروبًا، بين القارئ ومبادئه ولا أمانع ذلك إطلاقًا في الحقيقة. القصة قصة رجب، سجين سياسي، يحكي قصته في السجن وكيف كانت حياة عائلته وخصوصًا أنيسة، أخته التي كانت تحاول أن تكون أمه.
شهر أكتوبر
ملذات طوكيو لـ دوريان سوكيغاوا
أتذكر ردة فعلي الأولى للرواية، لم أستطع النوم من الجوع، قرأت الثلاثة فصول الأولى كاملة وكانت تتحدث فقط عن فطائر الفاصوليا الحلوة. ولم يكن الطبق غريبًا علي، فقط تناولت إحدى هذه الفطائر في إحدى البازارات، وكانت تلك الفصول تتحدث عن طريقة صنع الفطائر بشكل مفصل. السكر والفاصوليا، وصف غليان السكر، رائحة المتجر، كل ذلك أصابني بالجوع، ولم أنم ليلتها بسبب ذلك. وحتى هذه اللحظة، فأنا أتمنى بشدة تذوقها. نعود للقصة. بائع شطائر فاصوليا حلوة يلتقي بسبعينية تريد العمل لديه، وبعد عدة تطورات، بدأت فعلًا بالعمل. تترابط ثلاث شخصيات بالقصة، تجمعهم الوَحدة والشغف. مذهلة فكرة أن يقوم عمل أدبي كامل برسالة عميقة بثلاث شخصيات وفاصوليا. رواية خفيفة وعميقة بفكرتها بآن واحد.
“انتهى بي الأمر إلى أن أفهم شيئًا. وهو أننا، أيًا كان ما نفتقده وأيًا كان ما نتعرض له، يبقى أننا بشر.”
