ابدأ هذه التدوينة باعتذار لجدتي لكونها الموضوع الرئيسي لها.
اقضي وقتي في هذه الإجازة في غرفة جدتي الزرقاء أكثر من غرفتي أنا، تبدأ نوبة جلوسي عندها من بعد آذان المغرب حتى آذان الفجر، ويستلم من بعدي أخي عبدالعزيز ومن بعده والدتي وهكذا دواليك. أنجح بالهروب والتملّص أحيانًا لقضاء بعض الوقت لنفسي، وأحيانًا تمسكني جدتي بالجرم المشهود أثناء انسحابي قائلة:”وين رايحة يا عمتي طلالة؟” أتعرق وأحاول إيجاد عذر، وأقول:”بجيب فنجال أشرب قهوة” ويكون ذلك فنجالي الخامس بعد المئة، أتجرعه تجرعًا بينما تحدجني بطرفها تتأكد من رغبتي بذلك. ولا أخفي بأنني أشعر بالإحباط لخوض الروتين ذاته في كل يوم، فأنا إنسان بعد كل شيء، وكثيرًا ما ثارت البراكين في داخلي، وبلطف من الله تخمد بسعادة صغيرة، وهنا قائمة من تلك السعادات.
١-أجزم بقدرة والدتي على استخدام غرفة جدتي كغرفة تسخين لإذابة دجاجة الغداء، تبلغ درجة حرارة التكييف ثلاثون درجة، مما يجعلني أتساءل إن كان منطقي في قص شعري لتجنب الحرارة منطقًا صحيحًا أم غير ذلك، لأنه حتى بطوله القصير هذا، لازلت أذوب كالزبدة، ولا أستطيع إيجاد حل لذلك. ولا تكتفي جدتي بهذا، بل تقوم بإطفاء التكييف بحجة أن هواء ربي من النافذة أفضل. وتكمن سعادتي هنا وامتناني بأنني الآن جاهزة للعيش في الربع الخالي بدون أية مشاكل.
٢-أستطيع تناول كتاب كامل في جلسة واحدة في الغرفة، ومشاهدة حلقتين من مسلسل بدون توقف، صحيح أن إعدادات مخي تتضارب بفعل قناة الصحراء، فأسمع الممثل جانغ هيوك الكوري يقول بيتًا من الشعر كـ”ما شفتوا الحمر الجراما المزايين، اللي حصايرهن كما السدو ممدود” مما يدعوني إلي العودة لعشر ثوان في الحلقة لاستيعاب ما قاله. وما استطيع فعله الآن هو مشاهدة فيلم كامل بدون أن اتأثر بأي شيلة أو أية أصوات من صرخات مزاد صقور بجانبي.
٣-غرفتها هي نقطة التجمع في المنزل، لا أستطيع رؤية إخوتي جميعهم إلا في غرفتها، وهي أيضًا نقطة تجمع بنات عمومتي، فما أن ننقسم لأي سبب من الأسباب وأي سر من الأسرار حتى نعود مجددًا لغرفتها. ومع أنها تطردنا أحيانًا بحجة الإزعاج إلا أنها سرعان ما تندم على ذلك، وتدعونا لتناول بعضٍ من الفشار أو الشكولاته.
٤-سرعة النت في الغرفة لا مثيل لها، وحتى إن اشتكت من بطيء أو توقف مستمر لمقطع اليوتيوب فإن المودم ينقل إلى مكان أقرب لها أو حتى يتم استبداله. لذلك أفضل تحميل ما أشاء في غرفتها، حتى إذا ما سنحت لي الفرصة تابعت في غرفتي بدون مقاطعة.
٥-معرفة أخبار العائلة كلها، تسكب جدتي أسرار أقربائي في أذني، وتحلّفني ألا أخبر أحدًا، ولكنني أجدها في المقابل تخبر غيري، وماذا عن الحلف الذي قمت به لها وتحريصي على مدى أهمية المعلومات؟ لا تتعدى الأسرار خبر خطبة أو حمل، لكن أتحمس وأقدر أهمية معلوماتها من أجلها ولو أنها ليست من المستوى المطلوب.
٦-دعوات صادقة تنير الأيام، تمطرنا بدعوات عديدة في كل دقيقة، كحصن وطمأنة ضد الأيام الصعبة. أدخل معركتي وقد اتخذت من دعاءها درعًا ينقذني، فلا أخاف ولا أتراجع. إلا أنها في بعض الأحيان تتخطى رغباتنا نحن وتدعو لرغباتها هي لنا، فتدعو لمنيرة اختي بالزواج من شعيب عامل المزرعة السابق، بحجة أنه طيّب القلب لا غير، وحسافة بأن يتزوج من هندية ويترك منيرة اختي التي تحتاج زوجًا طيب القلب.
٧-قصائد شعرية مثرية ورقيقة، تلحنها جدتي حينًا وتلقيها أحيانًا أخرى، وإن كان أغلبها غير مفهوم. إلا أن ما ينقض مضجع والديّ هي مدى خلاعة بعض القصائد، والتي تنقطع فجأة من غمزات وصرخات من والدي لإيقاف القصيدة قبل إتمامها.
٨-لا يقيم والداي خطوط حمراء عريضة فيما يتعلق بعلاقتهم بنا، فنمزح كثيرًا ونضحك أكثر. إلا أنني أحيانًا لا أشعر بكفاية المزحات التي أطلقها على والدي، فتمنعني نفسي عنها لكونه والدي قبل كل شيء، إلا أن ما يريحني استطاعة جدتي على إلقاء النكات على والدي بدون حدود، فأرى والدي كثيرًا كبندر الابن وليس الأب، تقرّعه جدتي وتضحك عليه وتحاول قرصه أحيانًا، مما يشفي غليلي أغلب الأوقات.
٩-مدة جلوسي الطويلة لدى جدتي تزيدني قربًا بها، وتزيد بذلك مجموعة ألقابي. تحولت ألقابي تحولًا جذريًا، فمن قرارة إلى الحبيبة، تحوّل هائل لا يشير إلا على تحسّن السمعة ولله الحمد. ولم تتأثر ألقابي فقط، بل مكانتي لديها، فتحولت من حفيدة وسطى مهضومة الحق والصوت إلى المستشارة والتابعة، فبدلًا من أن تؤلم رأسها بإصدار الأوامر تكتفي بغمزة لي أو بحركة يد. وأما بالنسبة لما يتعلق بباقي الأحفاد فتقول لي:”عندك فلانة، انصحيها تكد شعرها وتضفه، إذا جت لنا وشفتيها قولي لها تزيّن شعرها، انصحيها ترا ما لك إلا أجر.” وأما فلانة هذه، فقد انفقت ما يقارب السنتين في تدريب شعرها على الكيرلي، ولا تكف عن حشد جيش من باقي الحفيدات ليقمن بتجعيد شعورهن تبعًا لها، ولو تدري جدتي بذلك، لأقامت حربًا.
وأما عن النقطة العاشرة فأستسلم عن كتابتها، فلقد بدأت كتابة هذه التدوينة قبل اسبوعين تقريبًا، وإن طالت مدة التدوينة بهذا الشكل فإني أبدأ بالتشكيك بها. لا أستطيع إكمالها ولا أستطيع تركها كليًا فتتبعني في أحلامي. سأترك النقطة العاشرة للمستقبل في تدوينة أخرى أو قصة.
وحتى ذلك الحين، حفظ الله أجدادي وأجدادكم، ورحم الله موتانا وموتاكم، وإلى اللقاء يا أصدقاء.