العنوان الحقيقي لهذه التدوينة هو “عن الموت” إلا أنني لأسباب عديدة تتعلق أولاها بالمشاعر، وأخراها بالمعنى، أن أحوّر المعنى إلى ما هو ظاهر الآن.
نشاهد الآن أو بالأصح نعيد مشاهدة مسلسل “مجاديف الأمل” أنا ووالدتي وجدتي، تم تصوير هذا المسلسل في سنة ٢٠٠٥، والذي ما زال متمسكًا بذاكرتي بكل قبضيته لسبب من الأسباب، والذي أعتقد أهمها هو ظهور حبي الأول فيه، ماجد مطرب فواز، والذي بدوره زرع حب سيارة الهمر في قلبي منذ تلك الفترة، ولا يزال الهمر يملك صك قلبي، من قال أن الحب الأول ينسى؟ وبعد هذه المقدمة الطويلة أريد القول بأن أحد الممثلين وهو -أحمد الجسمي- في ذلك المسلسل أعاد بذاكرتي دوره في مسلسل “أبلة نورة” والذي أؤكد بأنه سبب لي رهابًا من الموت لمدة طويلة. في عامي السابع من الحياة، لم أرى الموت ولم أسمع عنه شيئًا البتة، لم تقابلني مشاعره، ولم أشتم رائحته، مجهولًا كما هي الحياة لمن هي في السابعة. أول لقاء لفكرة الموت معي كانت من خلال -أحمد الجسمي- والذي بدوره جعلني أكره حياتي، وأكره الموت معها. منظر حياة الفهد وهي تركض بممرات المستشفى الناصعة بالبياض على عكس ما تضمنه من سواد، بالحركة البطيئة، تركض كما لو كانت تستطيع منع الموت من زيارة زوجها، تمسك -حياة الفهد- بأقدام زوجها، تفتح وجهه، تبكي بحرقة وهي تنظر إلى وجهه المرصع بالكدمات، بعينان مفتوحتان، لا يجيب ولا يشعر، أما أنا في عامي السابعة، أنتفض وأسبّ الموت في داخلي، ولخوفي الشديد منه، لم أسأل والدتي عنه، ولا أي شخص آخر، خشية من زيارته، ولذلك فقد ظل مجهولًا لمدة طويلة، جهلًا يغذيه الخوف.
تفاقمت حالتي في المتوسطة، أخاف ليلًا أن أنام ويزورني الموت في نومي، أخاف أن أموت في طريقي للمدرسة، أموت في الفصل، الساحة، مكتب المعلمات،في أي مكان. إلى أن تقابلنا في ثالث متوسط، في وفاة جدي. وبعد تلك الفترة، وبعد نجاتي من تلك الأوقات، ونجاتي من أول ثانوي، حاربت خوفي بالحب، ولا أمزح بهذا، فقد أحببت حياتي لدرجة أنني نسيت الموت، انخرطت في حياتي كطالبة ثانوية في أوج شبابها ونشاطها، أحلامها وطموحاتها، نسيت الموت من خلال حبي لأيامي، إلى أن تعايشت معه، كشيء حقيقي جدًا، حتمي، لكن لا عجل فيه، ألا أنتظره، أن يزورني هو، لا أن أزوره أنا. بعد نموي الفكري، وتأملاتي الكثيرة بأخذ احتياطاتي من أن أرمي بنفسي إلى التهلكة، وأزور الموت بنفسي. عشت تحت فكرة الاستعداد لزيارته، بدون أن أنسى الاستمتاع بالحياة باعتدال.
وبهذه الأفكار عشت حياتي إلى حتى هذه اللحظة، ولكن ما أنقض مضجعي هو كثرة الموت المفاجئ الآن، اختلطت علي مبادئي، خوفي بدأ بالظهور على سطح قلبي على فترات متقاربة، ويظل على السطح لأوقات طويلة. أصبحت لا أتأخر عن التعبير بمشاعري،عن كتابتها، عن تسوية المواقف، عن الركض في الحياة قبل أن أتعثر، وغيرها الكثير.
قد يتسم سفري هذا لحياتي الحقيقية الموجودة على الطرف الآخر من الموت، بتضارب بعض القناعات والمبادئ، للتخلي عن الكثير من المتع في سبيل ملء حقيبتي بما يكفيني لحياتي الأخرى، إلا أنني لن أستسلم بإذن الله. لن أخشاه بعد الآن، ولا يتوجب علي خشيته، بل أن أتعايش مع فكرة وجوده فقط، وأن أقوم بما يتوجب القيام به، وألا أنسى بالتأكيد من إخبار من أحبه بأنني أحبه فعلًا.
يدور في ذهني سؤال سمعته في مقابلة”من أنت بعيون الآخرين؟” لم استطع الإجابة، ليس لأنني أعرف بالفعل أنني ملهمة، وشخص ذو حس كوميدي لطيف، أو أنني ذات حضور مميز وأنا كل تلك الصفات ولا أعارضها إلا أنني فكرّت بالعكس. هل أنا شخص سيء لا أحد يتمنى حضوره لحفله؟ هل أنا شخص مزعج لأحد الأشخاص؟ والتفسير الوحيد لتفكيري العكسي هذا هو محاولتي للإصلاح المرتبطة بالموت، لا أريد المغادرة بصفتي شخص مزعج، سيء أو وقح. وهو شيء مستحيل أن أكون شخصًا جيدًا بعيون الجميع، لذلك على الأقل يجب أن أكون شخصًا جيدًا بعيني أنا أولًا، وذلك ما يتوجب أن أسعى إليه بجهد أكبر من عملية الإصلاح التي أسمو لها.
قرأت رواية وعلى لسان أحد شخصياتها قالت بأنها لا تريد أن تموت وهي لم تجرب إحساس أن تدخل الغرفة وتنوّرها بوجودها، وأعتقد في ذاتي بأن الأهم ألا ندخل الغرفة ويصمت الجميع بدخولنا، أو يخرجوا بالتتابع من بعدنا، الأهم من التنوير هو عدم الدخول إلى الغرفة والسماح للصمت والضيق بالدخول من بعدنا.
وحتى ذلك الوقت الذي يأتي الموت فيه لزيارتي بعد عمر طويل ومديد ومبارك بإذن الله، وحتى الوقت الذي أذهب فيه إلى حياتي الحقيقية، سأتسلح بسفري هذا بالتقوى والحب والاطمئنان، وأهمها التوكّل.