“وكل شيء يمر به الإنسان في حياته لابد منه. كل شأن هو ضرورة. كل حدث هو حاجة ملحة. كل أمر نمر به من فرح أو حزن، من سلم أو حرب، من حب أو كره، هو نفسٌ من أنفاسنا، لو لم نمر به لاختنقنا وعدنا إلى العدم.”
غرقت في بحر من الصوفية لمدة أسبوع كامل، إتحاد أرواح، رسائل إلهية، أولياء ودروس، ولغة بديعة تجمع هذا كله. رحلة محيي الدين بن عربي منذ تخبّطه ما بين أن يكون نسخة عن والده، خادمًا في البلاط، أو أن يكون شيئًا آخر، أن ينذر نفسه لخالقه، أن يبحث عن أوتادٍ لن يثبت قلبه إلا بها.
رواية عن سيرة محيي الدين، ليس كشيخ ومتصوّف وإنما كإنسان، كروح ضائعة بقلب مضطرب. حفظ القرآن وقرأ في الفلسفة، وشرب الخمر ورقص وكذب وسافر وأيضًا وقع في الحب. وما بين سقطة وأخرى يحاول أن يطهر قلبه، كما قالت له فاطمة التي ساعدت بتوليده:”طهّر قلبك ثم اتبعه.” أوصته بالبحث عن الأوتاد التي ستساعده، عن من سيمسك يده ويقوده لخوض الحياة، وهم أربعة أوتاد بحث عنهم وبحثوا عنه، أولهم الكومي الذي التقاه في خلوته في القبر، والثاني هو الخياط صديقه الذي أقعده المرض، ونظام ابنة زاهر الأصفهاني التي هام بها حبًا ولم يستطع الزواج بها لكونها وتده الثالث، لتنتهي رحلته بإيجاد وتده الأخير شمس التبريزي.
ستمئة صفحة لم تنتظرني، بل ركضت وركضت معها، أحداث سريعة مترابطة لا تدعوك سوى للركض. مرسية، إشبيلية، حلب، دمشق، القاهرة ومكة، يسافر القارئ مع محيي، ما أن نعتاد على بقعة من هذا الفضاء الشاسع حتى نشد الرحال عنها. قلب محيي ضائع، يهيم في الدنيا، لا ينفك عن السفر:” من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم.”
لم يكن محيي بطلًا خارقًا، بل هو صنيع التجربة والحزن:” من نحن بلا أحزان؟ كيف نأمن على أنفسنا بدونها إلا نتيه في أودية الغفلة مثل شياهٍ ضالة؟ ما أحب الحزن إلى نفس الصوفيّ و ما أمقته على نفس الجاهل الذي ألهته الدنيا. يريني الله في الطريق حزناً بعد حزن.” يبكي، وما أكثر ما يبكيه، رقيق القلب، كثير التأمل، كثير العطاء، لا يجد الوسط أبدًا، إما حار أو بارد، إما غني أو فقير، خلوة ليوم أو يومين أو لأشهر، إما الحياة أو الموت.
قرأت الكتاب على الكندل، فلم أعلم شيئًا عن عدد الصفحات التي كادت أن تكون سببًا بتأجيل قراءة الكتاب، لكنني لم أشعر بها، فالكاتب غزل الجمل بطريقة سلسة. لم أتوقف عند أي سطر لمراجعة تكوين الجملة، أو لمعرفة معنى الكلمات، أو للبحث عن شروح لبعض الممارسات الصوفية والحكمة منها، فقد أضافها الكاتب بالنص بطريقة تكاملية مع الأحداث الدرامية التي تستند عليها الرواية. وقام الكاتب أيضًا بإضافة مقولات ابن عربي ببداية كل فصل، حيث يتمحور الفصل حولها، وهذا جعلني أقدر وأحترم الجهد المبذول لدمج تلك العبارات مع سير الأحداث، بالإضافة إلى أنها كانت سببًا جعلني أكثر حماسة للاتهام النص المكتوب أمامي. لم أشعر بالوقت وأنا أقرأ الكتاب، وإنما شعرت بآلام وتنميل بمفصل يدي اليمنى من إمساكي للكندل لمدة طويلة.
“الحب موت صغير” من هذه المقولة اشتق الكاتب العنوان-موت صغير- وكما تقول صديقتي في كل مرة تقرأ فيها جملة تحوي على معنيين:”الجملة هذي فيها وورد بلاي” بحذف مفردة الحب من الإسم يتسنى للقارئ وضع أي كلمة لتكون موتًا صغيرًا، الشبع موت صغير، النوم موت صغير، القراءة موت صغير، وقائمة لا تنتهي من الاحتمالات، أسرني العنوان كبداية، والمحتوى كان متممًا لروعة العنوان.
تجدد شعور الندم لدي بإنهاء الكتاب، كما ندمت على اكتشافي المتأخر لأغلب الكتب، فتمنيت لو أنني قرأته فور صدوره، أو على الأقل عاصرت مشاعر فوزه بالبوكر، لكن كيف لي أن أقنع فتاة في السادسة عشرة أن تقرأ كتابًا عن الصوفية؟ لم أكن سوى طالبة في بداية المرحلة الثانوية، لا تتمنى سوى أن تكون أسرع طالبة للوصول لمعمل الفيزياء. وبتأملي لحالي هذه، أجد بأنني منذ هوسي بوصولي لمعمل الفيزياء الأولى حتى الآن لم أكن إلا أُعدّ نفسي لما أنا عليه في هذه اللحظة، لم تكن سنواتي السابقة سوى إعدادًا للإسفنجة التي ستتشرب كل هذه المعرفة التي كانت غائبة عني، أو بالأصح لم تكن المعرفة غائبة وإنما كنت أنا. وما يساعدني على تخطي إحساس الندم هو إحساس الترّقب، ما هو كتابي القادم؟ من هو الكاتب الذي سأتعرف عليه وكيف؟ الطريق طويلة ولكنها ممتعة.
غياب سيرة حقيقية مكتوبة عن ابن عربي أعطت الكاتب الفسحة للخيال، فسحة لأن يتقمص شخصية ابن عربي ويتحدث بلسانه، أن يتحدث عن ولادته كما لو كان أحد القابلات، وأن يصف احتضاره وموته كأحد المشيعين. أراد الكاتب أن نلتمس تحولات ابن عربي، أن نحاول إيجاد زاوية أخرى لفهمه، أن نسمع منه لا عنه، ونجح بذلك تمامًا.
فأن تتقمص شخصية تاريخية وتكتب حياتها بنفسك لدرجة أن يتغير حكم الناس عنها، لهو نجاح بالتأكيد!
فخورة بانتمائي لنفس التربة التي احتضنت محمد حسن علوان، ولم يتبقى إلا أن تفخر بي هي أيضًا.
انتهيت من الكتاب وقد عزمت على قراءة كل مؤلفات الكاتب، كما شاهدت أغلب مقابلاته، وحتى يوم الاثنين القادم الذي سأكون به شاهدت كل المقابلات، إلى اللقاء يا أصدقاء.
*
ذكرت بالتدوينة السابقة أنني أقدمت على شيء جديد أليس كذلك؟ وأقول هنا بأنني أصبحت كاتبة محتوى ضمن فريق مكتبة ألسن. سأكون الكاتبة الرئيسية للمدونة التي سيطلقها المتجر، وسأكون المشرفة عليها كذلك، كما أشرف أيضًا على مواقع التواصل الاجتماعي. وبذلك سيكون لديكم تدوينتان لي أسبوعيًا، أيام الإثنين والثلاثاء بإذن الله، الإثنين تدوينتي الرئيسية هنا، والثلاثاء تدوينة المكتبة. كما سيكون هنالك تدوينة يوم الخميس من قبل المتابعين والقراء بإشرافي. ستنهمر كلماتي من كل حدبٍ وصوب، وأتمنى لكم استقبالها بصدر رحب، وحب أيضًا إن كان ذلك ممكنًا. وللمشاركة في تدوينة الخميس في المكتبة عن مراجعة كتاب أو أي موضوع اضغطوا على الرابط، كما يوجد مكافآت شهرية.
وحتى انطلاق المدونة بشكل فعلي، إلى اللقاء.
“إن لرضا الله عليك شعوراً لا يمكن أن يوصف. دثار دافئ يحيط بقلبك في ليلة برد، أو وميض من الضوء يسافر في عروقك، أو ملاكٌ من ملائكته يتسلل إلى روحك و يحضنها مثل صديق قديم.”
“قال لي أحد المعزين: “آخر الأحزان ياسيدنا”. ما أسخف هذه العبارة. لا هي أمنية فتتحقق و لا دعاء فيستجاب. كلما رددها أحدهم سمعها الناس هكذا:”آخر الأحزان” و سمعتها أنا هكذا:”أتمنى لك الموت عاجلاً قبل أن يصيبك الحزن التالي”. من نحن بلا أحزان؟ كيف نأمن على أنفسنا بدونها ألا نتيه في أودية الغفلة مثل شياهٍ ضالة؟”
“يريد الله أن يبتلي السالك حتى يرى طريقه والعارف حتى يذوق إيمانه. ويقلبني الله بين إصبعيه في المكان والزمان حتى أعرف قدر نفسي فلا أعدو عنها.”
Pingback: ١٢ كتاب، ١٢ شهر (٢٠٢٣) – محاولات