وكما قلت آخر مرة في آخر تدوينة تحدثت بها عن الكتب، لن أشتري أي كتاب جديد حتى أنتهي من الكتب التي لدي، وبالفعل استطعت امساك نفسي حتى الأسبوع الماضي، دخلت مكتبة صغيرة أنا وأخي الأصغر، أصر على شراء قصة، وبينما أتجهز للدفع فكرت في نفسي:”فيصل بيتشري كتاب وأنا لا؟” لذلك وضعت قصته جانبًا وذهبت للبحث عن كتاب لأشتريه، وجدت كتاب -العالم المكتوب- في نفس مكانه السنة الماضية، حيث أتيت لنفس المكتبة قبل عام، وحملت الكتاب لأشتريه إلا أنني تراجعت وقلت في نفسي بأنني سأشتريه من الانترنت، لكنه سقط سهوًا ولم أتذكره سوى في تلك اللحظة، اعتذرت منه ووعدته بأن أقرأه حالًا كاعتذارعن تصرفي الطائش. وبذلك أصبح هذا الكتاب هو الكتاب المحظور الذي لم يتوجب علي شراءه، إلا أنني اضطرت لذلك لئلا تسوء سمعتي بين الكتب.
لا أعلم كيف انتهى بي الحال بتلخيص الكتاب كاملًا في دفتر ملاحظاتي، الكتاب قيّم وثري بالمعلومات التاريخية والعلمية، لكنه مكتوب على شكل قصة، وبذلك كان تلخيصه مهمة يسيرة وسهلة، بحيث المعلومة تجر المعلومة الثانية خلفها جرًا. يتحدث عن تأثير كتابة القصص والأدب بشكل عام بنحت العالم. كيف للقصة أن تطرح الناس أرضًا وكيف لها أن تحافظ على إرث الشعوب المهددة بالزوال. كيف للقصة أن تكون حبل نجاة وحبل مشنقة بالوقت ذاته، يكتب المؤلف عن الأدب وتغييره لشكل العالم، عن سفر الأدب من قارة لأخرى، وعن تشبث الجميع به خوفًا من النسيان والفساد.
في الفصلين الأولين تحدث الكاتب عن ألكسندر الأكبر وإلهامه العظيم الذي يحتفظ به تحت وسادته، الإلياذة. يقول الكاتب بأن ألكسندر أراد أن يصبح كبطل شخصيته المفضله في كتابه المفضل، أراد حكم العالم والسيطرة على الجميع. فاحتفظ بالكتاب تحت وسادته في حله وترحاله لكي لا ينسى هدفه. أنشأ الإسكندرية لتكون أكبر مكتبة، لكي تحفظ قصة الإلياذة ومثيلاتها، وفعلًا وجدت الإلياذة في المكتبة بعد سنوات وبذلك حافظ ألكسندر على أدب عظيم بقدرته ومكانته. ولم يكن هو الوحيد الذي حافظ على الأدب بسبب ولعه بالقصة، وإنما آشور بانيبال الذي خبأ قصته المفضلة جلجامش في مكتبة قصره، فلم تصلها نيران حربه مع أخيه، فاستطاع إنقاذ قصة جلجامش من الضياع. أما في الفصل الثالث فتحدث الكاتب عن كيفية الحفاظ على القصة والأدب بدون تدخل القوة الحاكمة كما فعل ألكساندر وبانيبال، وإنما كيف ساهم الأفراد أنفسهم بحماية الأدب.
مر الأدب بمراحل عديدة، من التلقين إلى الكتابة والتدوين إلى الخطابة والحوار وحتى التمثيل. تشكلت القصة بعدة أشكال، تحدث الكاتب في الفصل الرابع عن اختفاء الكتابة وظهور الخطابة والحوار وارتفاع صداهما. أتى الكاتب على ذكر سقراط وبوذا بهذه الجزئية، وعن مدى تأثيرهما بصنعة الكتابة.
تحدث الكاتب أيضًا عن بداية صناعة الورق والحبر، وعن أول رواية بشرية مكتوبة، وكانت رواية يابانية كتبت من قبل الكاتبة موراساكي شيبيكو. وكانت هذه المعلومة صادمة بالنسبة إلي، بسبب اعتقادي بأن أول نص بشري مكتوب ومفهوم كان Beowulf وبعده كانت الروايات والفن الكتابي، لكنني ذهلت لمدى إيجادة موراساكي لكتابة شيء لم يكن مألوفًا مسبقًا كالرواية، ونظرًا لظروف حياتها التي كانت ستجعل منها ضحية للنفي أو الموت بسبب كتابتها الجريئة والغير معهودة. وليست فكرة كونها كتبت أول رواية هي ما أذهلتني فقط، وإنما كتبت الرواية وأكملتها لأجزاء لتكون أول سلسلة روائية تتحدث عن أجيال عائلية، ولم يكن إكمالها لروايتها إلا بسبب أمر من الأسرة الحاكمة أرغمها على ذلك. كانت روايتها ذات تأثير ملموس وظاهر على الشعب الياباني، وعلى الأدب العالمي بشكل عام.
في الفصل السابع للكتاب كانت الطباعة، عن أثر صكوك المغفرة ودورها في نشر ثقافة الطباعة وتحسينها. ساعدت الطباعة على نشر الدين المسيحي أولًا، وكان ذلك هدفها الأسمى في البداية، ومن ثم أصبحت صناعة اقتصادية بحته، المال أولًا ومن ثم الفائدة، بغض النظرعما تتم طباعته، سواء كانت نصوصًا تؤدي للحرب، أو نصوصًا تدعو للسلام.
وكما جرت العادة معي، ففي كل مرة تنتابني رغبة قراءة كتاب ما، لا ينفك الكتاب عن القفز في وجهي. ولأنني أرغب بشدة قراءة دون كيخوته فبالطبع ظهرت لي كفصل كامل في الكتاب. شعرت بالحزن في البداية خوفًا من وجود تلميحات تفسد علي القصة، إلا أن الفصل كان عن الكاتب نفسه بدلًا عن روايته. ميغيل دي ثيربانتس هو أول كاتب معاصر كابد هموم الطباعة والنشر المعروفة حاليًا، سرقت روايته وطبعت في أماكن عديدة بدون علمه، وحتى أنها أكملت في جزء ثانٍ على غير دراية منه، مما دعاه إلى إكمال القصة بنفسه. في عصره، انتشرت الطباعة، ولم يكن لها رادع.
أتى الكاتب على ذكر نشأة البيان الشيوعي، في الوقت الذي سنت فيه قوانين الطباعة والنشر، فنتابع تطورات التاريخ البشري بانتشار الكلمة ومنعها. منع البيان الشيوعي من الطبع، وكانت نسخ قليلة منه تقرأ في الخفاء، ووضعت محاكم التفتيش ورصدت العقوبات للمؤلفين، أصبحت الكلمات ذات قوى خارقة، تؤثر بالجميع، تزرع الرعب في الحكومات، ويبني بعضها المستقبل.
أنهيت الكتاب باندهاش وحزن طفيف، اندهاش من قدرة الكاتب العظيمة بسرد موضع ثقيل كتاريخ الكتابة بتلك البساطة والخفة، وحزن بانتهاءه، وأظنني لن أمل من قراءته أبدًا، وأرى نفسي مستقبلًا أقرأه مجددًا لمجرد الاستمتاع بالكلمات وتاريخها.
اقتباسات:
“لم يولد الأدب إلا عندما تقاطعت رواية القصص مع الكتابة، ففي السابق كانت رواية القصص منحصرة في الثقافات الشفهية، ولها قواعد وأغراض مختلفة، ولكن عندما ارتبطت رواية القصص بالكتابة بزغ الأدب مشكلًا قوة جديدة.”
“لم يكن آشوربانيبال بنقله هذه الكنوز إلى الشمال يتبع هوى نفسه فحسب، بل كان مدركا تمام الإدراك أن الكتابة باتت مرادفة للقوة، وأن القوة لا تظهر فقط بركز رؤوس الخصوم على الأوتاد، وإنما كذلك بالمهارات الكتابية وبجمع أكبر قدر من الألواح.”
“الضامن الوحيد لنجاة شيء ما هو استعماله المستمر، لا تثق بالطين ولا بالحجر. يجب أن يستعمل كل جيل الأدب. هام العالم إعجابًا بصمود الكتابة فنسي أن كل شيء مآله النسيان، حتى الكتابة.”
وحتى الاثنين القادم، إلى اللقاء يا أصدقاء.