أكتب هذه الأسطر بعد غفوة الفطور، لم أكن أخطط للنوم في الحقيقة، إلا أن أختي منيرة قامت بإغلاق المصابيح أثناء استلقائي على السرير، وبذلك فرضت علي الغفوة فرضًا لا اختيارًا، وها أنا ذا، أكتب الأسطر بدون أن أستطيع التنفس؛ بعد أن نمت بمعدة ممتلئة. وبهذا الصدد، أثناء إعدادي للفطور في المطبخ وحدي لعدة أسباب، اضطررت مرغمة أيضًا على التأمل، في الأيام الثلاثة الماضية، انقسم يومي لحالتين فقط، الجوع المجهد والشبع المتخم، لا وسط أبدًا، ومع تفضيلي لرمضان عن باقي الأشهر إلا أنني أكره عدم وجود وسط في روتيني اليومي، ولا تكمن المشكلة هنا وإنما في الحل، فالحل موجود إلا أنني لا أستطيع تطبيقه. يكمن الحل في تغيير فطورنا اليومي، من المعجنات والسمبوسة والمقالي إلى الشوربة والفواكة، ولكن عائلتي ترفض ذلك تمامًا، ولا يجعلني هذا إلا في رغبة تطبيقه بشدة على عائلتي المستقبلية، والتي تشير إليها اختي دائمًا بالعائلة المسكينة، العائلة التي ستنام في رمضان، والعائلة التي لا تعرف طعم السكريات وأكل المطاعم والقهوة.
امتدت تأملاتي إلى حرصي على الكمال، ففي محاولات عدة ممتدة لسنوات في إعداد العجينة، استطعت أخيرًا إعدادها بشكل مثالي، ولم تكن محاولاتي للوصول للكمال فقط باتجاه العجين، وإنما باتجاه كل شيء، أريد أن أكون على علم ومقدرة في كل شيء، ولطالما كان ذلك هاجس بؤس بالنسبة إلي، فتبعات الفشل تأتي مضاعفة، لا أعتبر عجينة مائعة محاولة فاشلة فقط، وإنما نقطة سوداء يجب علي مسحها-شخصنة شوي مع العجين والطبخ- ولذلك كان هاجسًا مؤرقًا بالنسبة إلي أن أدرّب نفسي على تلقي الخسارات والفشل كمراحل من التطور والنمو، لا كعقبات وأوسمة عار. ومما يزيد شعوري بالضيق تركيز الجميع على الجانب المظلم من اللحاق بالكمال، في كل مرة أقرأ مقالة عن هذا الموضوع أو أشاهد مقطع على اليويتوب عن ذلك، لطالما كان الكمال مرافقًا للهزيمة، بحجة لا وجود للكمال أصلًا، فتنقلب المقالة والمقطع إلى مواساة بدلًا من تشجيع. وأثناء تأملي لمدى براعتي بتشكيل العجينة أخيرًا أيقنت أن سباقي مع الحياة للوصول للكمال جعلني أشعر بها أكثر لا أقل. كان وما زال سعيي للكمال يفتح لي آفاقًا جديدة لتجربتها، علمًا جديدًا أغوص فيه، وقصصًا عديدة لأحكيها وأكتبها. سعيي للكمال بالرغم من جانبه الشرس المظلم المتعلق بلوم النفس، كان بداية الانطلاق للنجاح بأمور عديدة.
فكرت في يوم الثلاثاء للمرة المئة، يوم أخذي للوثيقة، لم يكن يومًا شاعريًا أو مثاليًا أو شيئًا من هذا القبيل، لم يستقبلني أحد عند الباب، ولم أبكِ، ولم أسلم على أي دكتورة، يوم عادي جدًا بكل مقاييس الاعتيادية، لكنني قاربت على البكاء بعد رؤيتي لمنيرة أختي تتجول بين القاعات. أخذت منيرة معي لاستلام الوثيقة لتأخذ نظرة عن المكان الذي ستدرس فيه السنة القادمة. وكنت أقوم بتعريفها بالمرافق كما كنت أفعل في الابتدائية، قمت بأخذها لتأخذ نظرة على المدرسة قبل أن تدرس السنة الأولى فيها، وأنا كنت في السنة الخامسة. نفس الكلمات والمشاعر بفارق اثني عشر سنة.
لم تتوقف تأملاتي عند هذا الحد، بل وصلت إلى القمر. تأملت في نفسي، في عائلتي، في الجو اللطيف الذي يتسرب لي من خلال هواء نافذة المطبخ، والتي كانت نافذة للانصهار في سنوات مضت، والآن هي نافذة لا تطل إلا على العصافير المغردة، ورش المطر. وكل هذا وأكثر بسبب وجودي أنا والعجينة وحدنا في المطبخ، وأشيد بهذه التجربة.
وحتى أكون أنا مع بشر حقيقين ليسوا طحينًا أو ذكريات، إلى اللقاء يا أصدقاء.