يجلس على كرسي خشبي أبيض، قطع صغيرة من الطلاء الأبيض تسقط على الأرض بجلوسه، وبعضها يلتصق برداءه الأزرق، منقطعة أنفاسه يمزق القماش الأبيض بيديه، يجمع القطع التي مزقها على شكل كرة ويرميها في زاوية الغرفة. ينظر للقاعدة الخشبية أمامه بوجه غاضب، يتصبب عرقًا، يعيد النظر ليديه، لم تعد تسمى يدين، جروح، تجعدات وألوان عديدة تغطي هذا كله، يحاول مسحها برداءه لكن الأوان قد فات، فالألوان جفت ولن تزول إلا بالزيت. ينهض ليغسل يديه، ويعود حاملًا لوحة جديدة بيضاء بنفس حجم سابقتها التي أصبحت كرة قماشية مصيرها كيس القمامة الأسود.
يدور في الغرفة التي استأجرها منذ السنة الماضية للرسم، يدور ويدور، يقفز ويهرول في مكانه، يحضر نفسه لللمسة الأولى على اللوحة البيضاء، يقف أمامها باعتداد، ينظر لها لدقائق، وتبادله هي النظرات، يتراجع بأثرها خطوتين إلى الخلف ويجلس على كرسيه مجددًا، يأخذ نفسًا ويقلب الفرشة بيده.
منذ أن استأجر الغرفة لم يعد للمنزل، ينتهي من رسم اللوحة، ينظر لها بعمق، يحاول معرفة الفرص الممكنة التي يمكنه بها تعديل اللوحة، يقنع نفسه بأنها لا تحتاج تعديلات، يغيّررداءه الأزرق الكامل، يتوق للمنزل، زوجته، أبناءه، رائحة الدفء، يبتسم وهو يرتدي حذاءه، يخرج من الغرفة، ينزل السلالم مسرعًا، يقفز الدرجات، يصل للشارع، لا يحتاج إلى سيارة فالمنزل لا يبعد سوى شارعين، إلا أن الشارع فجأة يتحول إلى سير ناقل كهربائي، يعمل بعكس اتجاه المنزل، يركض على السير، ويعيده السير إلى مكانه، يقف منتظرًا لعل حركة السير تتوقف، وتتوقف فعلًا، لكن ما أن يضع قدمه على السير تدب فيه الحركة ويعيده إلى مكانه، يرى أنه لا حل سوى الرجوع إلى الغرفة التي اتخذها مرسمًا، يعود أدراجه للرسم راكضًا بالطريقة التي خرج بها.”الشغف ليس الإجابة الوحيدة” هذا ما يخبر به نفسه تكرارًا، شغفه بالرسم لن يجدي نفعًا بلا عمل، فيرسم ويرسم بلا توقف.
يقف، يتجه إلى اللوحة أمامه، يرفع الفرشاة، يتوقف على بعد سنتيميترين من القماش الممتد أمامه، يشعر بالقماش يغلفه كمومياء، يحاول اختراقه بالفراشة، يضع اللمسة الأولى، خط أزرق من أقصى يمين اللوحة حتى يسارها، يعلم في داخله بأنه أخفق باللمسة الأولى، وأن الخط الذي رسمه كان من المفترض أن يكون أعرض بمليمترين، يأخذ نفسًا عميقًا مغمضًا عينيه عن خطأه الذي يشعر به بنهاية العالم، ويقول لنفسه بأنه سيحاول إخفاء الخطأ بالطبقات القادمة من الألوان.
تمتد خطوط كثيرة غيرالأزرق، تتمازج، تتعارك، تطالب بمساحاتها الخاصة، وتتوالد. يطيعها مرة، ويرفضها مرات، تعاقبه مرات ويعاقبها مرة، تمسك به الألوان من رقبته، بينما يمسك بها بالفرشة. ينام على الأرض أمام اللوحة، يشعر بها تراقبه، فيحلم بها تخنقه في نومه، يستيقظ ويغير مكانه لينام خلفها، يحلم بأنها تقع عليه، سيموت مختنقًا بفعل ألوانه التي يعيش بها. يستيقظ فزعًا، يتجه لها ليمزقها كسابقتها، توجه له نظرة تهديد، يعود أدراجه.
معارك كثيرة انتصر فيها وهزم، يمزق اللوحة وتمزقه، وأخيرًا ينتهي منها. يتأملها بفخر، بإحساس العودة للحياة مجددًا، العصير يعود لطعمه والهواء لنقاءه. يغير رداءه المبقع بدماء اللوحة الملونة، ودماءه الحقيقية الحمراء، يغسل وجه، ويغسل الفرش، ينزل السلالم مسرعًا، يصل للشارع، يعيده الشارع لمكانه، يتحول الشارع إلى سير كهربائي مجددًا، يعيده لمكانه في كل مرة يحاول بها الخطو إلى الأمام. يعود راكضًا للسلالم التي نزل منها، للوحة التي انتهى منها، يمزقها ليعيد رسم الخط الأزرق الذي أساء رسمه في البداية.
*أشيد بالاطلاع على أعمال الفنان الذي رسم اللوحة في الأعلى.