يبلغ السنة والنصف، في حديقة حيوان تنقصها الحيوانات، يركض ويسقط على وجهه، يلتفت إلى والدته التي تركض باتجاهه، يبدأ بتشكيل تعابير وجهه ويجهز عينيه لموجة بكاء، وقبل أن تبدأ الدمعة الأولى بالهروب من عينه، تقول والدته ممسكة بمعصم يده اليمنى:”عادي، عادي، ما فيك شيء، ما فيه دم، ولا انشقت ملابسك، تعال نشوف الفيل الحديدي الكبير هناك!” يحاول اعتصار دموعه، يحاول جذب انتباه والدته قبل فوات الأوان، إلا أن فرصته لإشباع رغبته بالاهتمام تختفي سريعًا، تنهض والدته وتسحبه من يده، يمشون بخطى متسارعة باتجاه الفيل.
يبلغ السادسة، يعود من المدرسة ظهرًا للمنزل، تستقبله والدته وتحمل حقيبته قبل أن يرميها أرضًا، وبدلًا من أن يمشي معها توقف وراءها في الممر، ينتظرها لتنتبه لغيابه، لكنها تضع حقيبته على مكتبه وتتجه للمطبخ، متجاهلة وقوفه وصمته. يعبس، تمتلأ عيونه بالدموع، يتهدج صوته، يضرب الأرض برجليه متجهًا للمطبخ، تستقبله والدته بابتسامة فاترة، تتجاهله مجددًا، لن ينتظرها لتسأله عن يومه، بل سيتحدث من تلقاء نفسه. انفجر بالبكاء، تنعجن كلماته ببعضها، لم تعطه والدته اهتمامًا وأكملت تقطيعها للسلطة. انتهى من عجن الكلمات، مسح دموعه بأكمام ملابسه، وعند تلك اللحظة نظرت له والدته أخيرًا، توقفت عن تقطيع السلطة وقالت:”الحين ليه هالصياح هذا كله؟” يخبرها عن يومه، عن اقصاءه من فريق كرة القدم، عن جلوسه في دكة الاحتياط طوال المباراة، عن زملاءه الذين لم يعترفوا بمهاراته، والذين لم يعطوه فرصة أصلًا لإظهارها. أعلن لوالدته كرهه لحصص الرياضة، وأنه لن يرتدي زي الرياضة أبدًا. تمسكه والدته مع كتفه وتقول:”عادي، عادي، وإذا ما لعبت كورة بتموت؟ إذا ما لعبت اليوم تلعب بكرة، وإن ما لعبت بكرة تلعب اللي بعده، وإذا ما لعبت بالمدرسة تلعب برا المدرسة وين المشكلة؟” وما أن انتهت من جملتها هذه، عادت لبشر الجزر.
يبلغ التاسعة، يعود من اجتماع يوم الجمعة العائلي بوجه جامد، يجلس على كنبة الصالة ساكنًا، يراقب والده يدخل ويخرج من غرفة نومه، لا تستثيره تلك الحركة لمعرفة ما يقوم به والده، ولا يملك أي رغبة بمساعدته. يشاهد والدته بالمطبخ تغسل ما تبقى من الأواني المتسخة، وينتظرها لتلاحظه. تخرج من المطبخ، تجلس بجانبه متجاهلة وجومه، تتعذر بارتداء جواربها، وتنتظر منه أن يتكلم. يبدأ حديثه كالعادة ويخبرها بأن أبناء خالته ضربوه، ولم يسمحوا له بتجربة اللعب بالسوني، وانتهى اليوم بلعب الجميع ما عداه. تلتفت إليه والدته وتقول:”طيب عادي، ما عندك أنت سوني؟ وش الفرق بين حقك وحقهم؟ عادي، ذكرني إذا ضربوك مرة ثانية أتدخل أنا وأقول لخالتك”
يبلغ الخامسة عشرة، يعود من المدرسة ويرمي حقيبته بالممر، يحدث ضجة كبيرة بوصوله، يغلق الباب بقوة، يرمي ثوبه على كنبة الصالة، يرمي حذاءه بالهواء ليرتطم بالجدار أمامه، يستلقي على ظهره، يتأوه، وينادي على أمه ويسألها عن الغداء. تجلس والدته بجاوره، يدعي محاولة فاشلة للاسترخاء بإغلاق عينيه، ينظر لوالدته بطرف عينه، يحاول الحفاظ على هدوءه، يخبرها عن المشروع الجماعي الذي كلّفه الأستاذ به، تتكون مجموعته من خمسة طلاب، ولا يقوم أيهم بمساعدته. تقول والدته:”عادي، المسألة بسيطة، اشتغل على المشروع لحالك، وإذا خلصت سلّمه للاستاذ ولا تكتب أسماؤهم معك، وعلّمه إنك اشتغلت عليه لحالك.”
يبلغ التاسعة عشر، يقدّم على مختلف الجامعات، يتلقى رسائل الرفض يومًا بعد يوم، يغلق جهازه المحمول بقوة، يخرج من غرفته ويتجه للصالة. يحاول أن يبدو طبيعيًا، يشرب القهوة، يضحك، ويشاهد التلفاز، إلا أنه لا يبدو بالحيوية التي اعتاد أن يكون عليها، يسيطر عليه البرود، على ملامحه، على ردوده المقتضبة، وعلى حركات جسده. يخبر والدته عن رسائل الرفض، كأي موضوع عادي، لا يزيد شيئًا على الموضوع ولا يكشف عن مشاعره، تعلّق والدته على الموضوع قائلة:”ترا كل الخريجين الحين ما ينقبلون، مو أنت لحالك، عادي. تقدر تأخذ هالسنة راحة، تقدر تدرس دبلوم وتكمل بعدها، تقدر تفتح مشروعك الخاص، والحين تغير الوقت، يمديك تسوي الي تبي بدون شهادة.” يوافقها الرأي، يغير الموضوع، يعود لغرفته.
يبلغ السابعة والعشرين، يخرج من مقابلة وظيفية، يتنهد بالسيارة، يعلم يقينًا بأنه سيدخل قائمة المرفوضين، المقابلة رقم خمسة عشر، رفض يتبعه رفض يقول لنفسه:”طيب عادي، الله وأكبر يعني بتوقف حياتي عليهم؟ وإن بغوا لغة انجليزية أتعلم عشانهم؟ كثير شركات تبغى مؤهلاتي بدون انجليزي، عادي”. لم يرفض من الشركات فقط، وإنما من مشاريعه الزوجية، رفض لغضبه الحاد، ورفض لوزنه الزائد، ورفض لتسّرعه. ولا ينفك عن قول:”عادي، يعني أغير من نفسي عشانهم؟ البنت بدالها بنت، وما كثر الله من البنات. وبعدين كل الناس عصبيين، وقفت علي؟ “