أدخل برجلي اليمين الغرفة الأخيرة في زاوية البهو المستطيل، أحاول بذلك اتباع السنة لعل حسنتي هذه تدفع ما هو قادم، لا أشعر بوجود هواء داخل الغرفة، كمن وضع الجميع في كيس بلاستيكي وأغلقه، رائحة كريهة، وأصوات تجعلني أعيد التفكير بقراري. ترتعش يدي وأحاول إخفاءها بجيب عبائتي، التفت يمينًا، الكراسي الثلاثية ذاتها، في كل مكان، حديدية باردة، ثلاثة مقاعد في كرسي واحد. يشغل الكرسي الأول أم تمسك بيد ابنتها التي يبدو لي بأنها بالعاشرة، تمسح على رأسها لتهدئتها، وتجلس بجانبهم امرأة احدودب ظهرها وقد غطت أعينها بالكامل، وأما بالكرسي الذي بجانبه فتجلس فتاة ترتدي عباءة وردية، تستغفر بصوت مسموع، وتهز قدمها بعنف. تراقبها فتاة أخرى بجانبها ويبدو لي بأنها احضرت اختها معها، فهما لا تنفكان عن الحديث، كما لو كانتا متلاصقتان، توأم سيامي ينتظر الفصل. وأما من الجهة اليسرى فتصلي المغرب امرأة ذات عباءة مطرزة بالأبيض، لا أستطيع رؤية وجهها ولكنها تصلي بسرعة، وتراقبها امرأة يطل سروالها الأخضر الطويل من تحت العباءة، وترتدي نظارات سوداء عريضة، المقعد الذي بجانبها خالي، ولكن تجلس بجانبه امرأة ترتدي عباءة رأس وقفازات وتقلّب هاتفها بدون توقف. أظن بأن المرأة التي تصلي الآن عن يميني تجلس بينهما لذلك سأجلس على الكرسي الذي يقع في المنتصف أمام الباب.
جلست في المنتصف تمامًا، المقعدان يميني ويساري فارغين، أصبح مجموع النساء في غرفة الانتظار بدخولي عشرة، يؤلمني ضرسي فجأة، وأشعر بأن توتري انتقل إليه بدلًا من ارتعاشة يدي، لا أظن بأن جميع الموجودين قد حجزوا لدى مصطفى، طبيب الأسنان الذي سأذهب إليه، فعشرة أشخاص لدى طبيب واحد بشكل متتابع شيء مستحيل، لكنني ارتحت لاحتمالية تأخر الموعد، دقائق إضافية من الراحة قبل الألم.
تدخل الممرضة وتقول بأنني الوحيدة التي حجزت عن طريق تطبيق المستشفى، وأما البقية فلم يقوموا بذلك، ولهذا فسأدخل لدى مصطفى الأولى، وأما البقية فبإمكانهم الانتظار والدخول بعدي حسب الأسبقية، لحظة…
لم أحسب حسابًا لهذا الموقف، تتضامن يدي وقدمي بالارتعاش مع ضرسي الذي سيدفعني للجنون، ينظر إلي الجميع، نظرات تنوعت ما بين حسد واطمئنان، تلتفت الطفلة لوالدتها وتسألها عما تفوهت به الممرضة للتو، اسمع ما شاء الله من العجوز المحدودبة التي تجلس بجانبهم، ترفع رأسها لتمعن النظر فيّ، استطعت رؤية عينيها أخيرًا، وبعد ثانيتين من تواصل بصري خضت فيها حربًا معها، انتصرت علي، أعلنت هزيمتي وقلت للمرضة بأن هذه العجوز تستطيع الذهاب بدلًا مني، وسأكون بعدها. لم تحلف علي العجوز بأن أذهب قبلها كما ظننت لجزء من الثانية، ولو مجاملة، بل نهضت مسرعة وهي تتمتم لي بدعوات سريعة استقصدت مني سماعها وخرجت.
لا أستطيع التركيز بأي شيء أقرأه بهاتفي، ستناديني الممرضة الآن بأية لحظة، أمد يدي للطاولة البيضاوية الزجاجية أمامي، أختار مجلة، ولا يوجد العديد من المجلات لأختار بينها، وأغلبها يكبرني بأعوام، إلا أنني أحاول تأمل الصور لتمضية الوقت، تراقبني الطفلة وتأخذ مجلة بدورها، تنهرها أمها، وتصر الطفلة لتفوز بالنهاية بعد أن تركت المقعد بجانب والدتها لتجلس بجانبي، يرقص اصبع والدتها السبابة في الهواء، مهددًا وخائفًا من الفضيحة، تعود الطفلة لمكانها بمجلة بيدها اليسرى. تدخل الممرضة فور عودة الطفلة لمكانها، تناديني باسمي، وأرقص باصبعي السبابة للطفلة كما فعلت أمها، إلا أنني لا أهدد بل أشير لها بالتفضل بدلًا مني، تصافحني والدتها وتشكرني على ذلك، بينما تستمر الفتاتان بالهمس.
تخلصت أخيرًا من رعشة يدي، ولكن بانتباهي لذلك عادت الرعشة مجددًا، تحاول الفتاة بالعباءة الوردية التخلص من رعشتها كذلك، أراها تحكم قبضتها تارة وتضع يديها بين ركبتيها تارة أخرى، تنظر للسقف، تنظر للأرض، تطيل النظر، كما لو كانت تغادر عالمنا لتعود إليه مجددًا بعد دقائق. تدخل الممرضة، تنادي على اسمي، انظر للفتاة الوردية، وكمن استيقظ من كابوس، تحول من نظراتها من السقف إلى وجهتي، وأشعر بها تنظر إلى داخل روحي، ابتسم للمرضة وأقول بأن الوردية تستطيع الذهاب بدلًا مني. تنهض مسرعة، تخرج كمن سمع أن حياته ستكون على المحك بتأخره لثانية، لكنها تعود للحظات لتأخذ حقيبتها التي نسيتها.
ينظر إلي جميع الموجودين، ذات البنطال الأخضر، وذات العباءة المنقوشة بالأبيض، والأختان، وذات عباءة الرأس، انتجنب نظارتهم، أعلم ما يجول برؤسهم، قد أكون مجنونة أو مجنونة، لا خيار آخر، لكن في كل دقيقة من التأجيل تخف رعشة يدي ويقل خوفي، لذلك فهذا مؤشر نجاح يدل على تغلبي على رهاب طبيب الأسنان الذي عانيت منه لمدة غير بسيطة. وفي لحظة انتصاري البسيطة بيني وبين نفسي تجلس بجانبي واحدة من الأختين السياميتين، تسلم وتخبرني بمدى إحراجها من طلبها هذا، تريد أن تأخذ أختها الصغرى دوري القادم، فأختها الصغرى كما تقول هي عنها بأنها لا تحتاج إلا لتنظيف ولن يأخذ ذلك وقتًا، لتخبرني بعدها عن سجل اختها الصحي انتقالًا لسجل العائلة كاملًا، وعن الغيوم والأمطار والصيف والربيع، أقاطعها بصعوبة لأخبرها بأن الممرضة أتت وأن عليها الذهاب، تشكرني لتذكيرها وتخرج هي وأختها من الباب.
ما زلت أشعر بنظرات الموجودين، لكنني أتجاهلها بالنظر إلى صور المجلة، تقترب مني ذات عباءة الرأس، تطلب مني بحرج شديد وأدب بالغ أن تأخذ مكاني، ولم تكمل جملتها حتى قاطعتها ذات العباءة المنقوشة بالبياض، تخبرنا بأنها على عجلة، وترد عباءة الرأس بأنها على عجلة أيضًا، تضحك أم البياض وتخبرها بأن أمرها لا يحتمل التأجيل ولا التوضيح، ترد عباءة الرأس بضحكة:”خفي علينا يا رئيسة الأمم المتحدة” وإذا بي أرى دخان الغضب يرتفع من فوق رأس عباءة البياض، تمد يدها لتمسك عباءة الرأس من رقبتها الغير مرئية لكنها وجدتها بسهولة ويغلب ظني لخبرتها السابقة بإمساك الرقاب، ينهضن جميعًا، يحلفن باالله، يتنفسن بصعوبة، أقف بمنتصفهما وأفرقهما بمساعدة البنطال الأخضر، أخبر الممرضة التي وقفت خلفي بأن هاتين المرأتين ستدخلن مكاني، وسيحكم الطبيب بينهما لمن تسترعي حالتها التدخل السريع.
أعود لمكاني، أحاول التقاط أنفاسي، ينظر إلي البنطال الأخضر باستغراب، لم استطع إمساك نفسي من الضحك، لتضحك معي هي أيضًا، تخبرني بأنها لا تحتاج لتدخل سريع ويمكنني الذهاب لموعدي أخيرًا، أحلف عليها بأن تذهب مكاني لمساعدتها لي بفك الحرب التي نشبت قبل دقائق، وتحلف هي بدورها ألا تذهب إلا بعدي، وأحلف إلا أدخل على الطبيب إلا بعد أن تدخل هي، تطلب مني أن استغفر وأطلب منها أن تستغفر، تدخل الممرضة، تطلبني وألتفلت إلى المرأة ذات البنطال الأخضر وأخبرها أن تذهب، ترفض، أنهض وأسحبها من يدها، تحاول إبعادي، أدفعها من ظهرها للباب، أصرخ بوجه الممرضة أن تساعدني، تمسك الممرضة بيديها وتسحبها بينما أدفعها من ظهرها، نصل للعيادة وأنجح بإدخالها وأغلق الباب.
أجلس وحدي، بالكرسي الذي يقع أمام الباب، الساعة العاشرة، لا أسمع سوى صوت غرغرة البنطال الأخضر من العيادة بجانبي، تعود يدي للارتعاش، تتصل والدتي لتخبرني بأن العشاء سيبرد، أخبرها بأن جهدها بإعداده لن يضيع، أحمل حقيبتي وأخرج من غرفة الانتظار.