أتمنى هذه المرة بأن تفعل شيئًا غريبًا، شيئًا يجعلني أتشبث بمنظاري، أن أصرخ، أن أخجل أو أن أكتب عنها بشغف في دفتري هذا، أو حتى أن أوثق اللحظة بالكاميرا، لكنها لا تفعل شيئًا أبدًا! أشعر بالملل أكثر منها، فكل صباحتها متشابهة، يرن المنبه عند التاسعة والنصف، تضغط زر الغفوة حتى العاشرة والنصف، تتمدد على سريرها، تلقي بنظرها على المرآة أمامها، تجول بأعينها بأنحاء الغرفة، تبحث عن هاتفها بجانب وسادتها يمينًا ويسارًا، تجده تحت الوسادة بفعل حركتها المستمرة قبل النوم، لا أراها تكتب، وإنما تمر سريعًا محركة أصابعها للأعلى والأسفل من الشاشة، تضعه بيأس بمكانه الذي وجدته فيه بالبداية وتنهض. وهنا يتوجب علي الاختباء قبل أن تراني ممسكًا بمنظاري من أعلى سطح منزلنا، تفتح الستارة كاملة، وتتجه للنافذة الأخرى المغلقة وتفعل نفس الشيء بأعين مغقلة، تهاجمها الشمس في كل صباح، ولا يثنيها ذلك من فتح الستارة في كل يوم فور استيقاظها. تتشبث ربطة صغيرة بأطراف شعرها، لا تمسك الربطة سوى شعرتين اثنتين، والباقي يتخذ وضعية الوقوف، تمسك الربطة الصغيرة بيدها اليمنى وتعيد ربطها، وأصبحت بذلك إنسانة أخيرًا. تراقب شكلها بالمرآة قبل أن تخرج لدورة المياه.
لا يستغرق دخولها دورة المياه وقتًا يذكر، فما أن ألتفت لآكل بعضًا من البسكويت الذي أحضرته كفطور تخرج سريعًا من دورة المياه، أضع البسكويت الدائري في فمي دفعة واحدة وأكمل المراقبة، تفرش أسنانها، تغسل وجهها، لا تستخدم أي صابونة لذلك أو أي غسول، تجفف وجهها وتعطي لنفسها ابتسامة قبل العودة للغرفة مجددًا، وقد تكون تلك الابتسامة هي كل ما أفضل مشاهدته خلال مراقبتي، فأحيانًا تتبعها بضحكة استهتار، وأحيانًا تعبس سريعًا، وبذلك أعرف حالتها الشعورية لليوم من خلال وقوفها أمام المرآة. تقوم بتغيير ملابسها، ولم أستطع رؤيتها تقوم بتغييرها حتى هذه اللحظة، فهي تقوم بتغييرها كل يوم في نفس المكان، مكان لا تصله نظراتي من خلال النافذة، وهذا يجعلني أكره انتظامها على روتينها اليومي هذا.
تضع سماعات لاسلكية بيضاء وتستغرق وقتًا طويلًا باختيار ما تريد سماعه، أجزم بأنها تستمع للبودكاست الذي تحدثت عنه في الأسبوع الماضي خلال تويتر، حيث قالت بأنها أدمنت الاستماع لحلقاته، فمواضيعه شيقة، وحلقاته كثيرة، ولعل هذا ما يجعلها تأخذ وقتًا طويلًا بالاختيار، لكن لماذا لا تقوم بالاختيار ليلًا قبل أن تنام؟ لماذا لا تقوم بتحميل الحلقة؟ بدلًا من الوقوف بالقرب من مودم النت في كل خمس دقائق بسبب انقاطع الإشارة. استوعبت بأن لحظات استغرابي أكثر من لحظات إعجابي، لكنها لن تثنيني عن مراقبتها حتى نهاية الشهر على الأقل. بعد اختيارها أخيرًا لما تريد سماعه أثناء إعداد الفطور، تخرج من الغرفة وتتجه للطابق السفلي، ولأستطيع مراقبتها من نافذة المطبخ، يتوجب علي الركض للطابق السفلي أنا أيضًا، أخرج السلم الخشبي وأضعه على جدار الفناء الخارجي، أصعد عليه لأكون أمام نافذة المطبخ تمامًا، أختبئ بين الأشجار التي زرعها والدي، وأكون مخفيًا عن الأنظار تمامًا، وهذه هي المرة الأولى التي اشعر بها بكامل الامنتنان لوالدي. وبالحديث عن الامتنان، أشعر بالامتنان لها أيضًا بفتحها لنافذة المطبخ كل يوم.
أخطأت بظني أنها تستمع لبودكاست، فهاهي ترقص بحركات غريبة بعض الشيء، متيبسة، لكنها ترقص ومن الممتع النظر إليها. تمزج بيضتان بوعاء زجاجي أسود هذه المرة، بالرغم من ثبات روتينها إلا أنها تقوم ببعض التغييرات البسيطة باختيارتها اليومية، كوب مختلف في كل يوم، ووجبات مختلفة أيضًا، وقد يرجع هذا على شعورها السريع بالملل. تضع البيض بعد قليه على قطعة خبز محمصة، تضيف شريحة طماطم وقطعة خس وجبنة مربعة، وما يثير اهتمامي إضافتها للكاتشب حتى مع تواجد الطماطم، يجب أن أجرب ذلك لأرى الحكمة منه. تقوم بعمل كوب من الشاي بينما تأكل وهي واقفة بانتظار غليان الماء، وما يجعلها أحيانًا تأكل الشطيرة كاملة قبل أن يجهز الشاي، وأراها تغضب من نفسها إذا لاحظت أنها تأكل آخر قضمة من الشطيرة أثناء تحريك الشاي، فهي تكره شرب الشاي وحده، يدعوها ذلك لعمل شطيرة أخرى، تتمتم لنفسها بكلمات تأنيبية على ما أعتقد من ملامح وجهها، بينما تخفق بيضًا آخر في نفس الوعاء. تحمل بيدها اليمنى هاتفها، وكأس الشاي، وبيدها اليسرى صحن الشطيرة الثانية. أسأل نفسي دائمًا عن الغرض من الامتناع عن أخذ صينية تحمل هذا كله؟ بدلًا من الركض إلى الغرفة بسبب حرارة الكوب. تعود لغرفتها ركضًا لتضع الكوب الحار على مكتبها، تبحث عن مقطع لتشاهدة أثناء أكل الفطور، وأراهن بأنها يوميات مصورة، فهي تعشق المشاهدة والاستماع لحياة الآخرين، كيف يمضون أيامهم وصباحاتهم، تقارن صباحها بهم، وتسرق بعضًا من عاداتهم. ينتهي المقطع وتنتهي معه الشطيرة، تخرج لوحة المفاتيح الوردية من درج مكتبها الأيمن، وتبدأ بالكتابة. وهنا تنتهي مراقبتي، أغلق منظاري بغطاءه وأضعه في حقيبته لأفتحه في الغد، فبعد كتابتها يبرد الجو وتغلق النافذة، وتغلق بذلك فرصتي الوحيدة لمراقبتها، استسلم وأنتظر الوقت الذي ستنشر فيه تدوينتها هذه. ولعل أكثر ما يغضبني فيها عدم التزامها بوقت النشر، مع إدمانها للاتزامات والوعود والأوقات، إلا أنها تنشر بأوقات عشوائية من اليوم، وأظل بذلك أحدث صفحتها على تويتر في كل دقيقة لأصبح القارئ الأول، ولأرى ما أفضى إليه روتينها هذا لليوم. وأقصى ما يحزنني في هذه الأيام اقترابها من إنهاء تحدي الكتابة، بنهايته ستكتب بأوقات عشوائية، بأيام عشوائية، وسأفقد فرصتي هذه للمراقبة.
الخميس ١٢ جمادى الآخرة ١٤٤٤ هـ