شرعت بقراءة كتاب -كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه- ليس للحديث عن الكتب وإنما للكتابة عنها، بظني أنه يحوي قواعد أستطيع اتباعها لعملي الحالي، لكن الكتاب أضحى منه تبريرًا للكذب أكثر منه مساعدًا. يؤمن الكاتب بجدوى اللاقراءة، وهي كما يقول “لا تختزل في إبقاء الكتاب مغلقًا. فالكتب التي تصفحناها، والكتب التي سمعنا بها وتلك التي نسيناها، تدخل هي أيضًا بدرجات مختلفة تحت هذا الصنف الغني من اللاقراءة.” ويغدو السبب الرئيسي الأول للكتاب كما يذكر الكاتب هو تنفيس الإحساس بالذنب لكل القراء الذين يشعرون بالضيق لعدم قدرتهم على قراءة كل شيء. تصتدم اللاقراءة مع ثلاثة محاور رئيسية أولها واجب القراءة، أن يرغم المرء على قراءة كتب معينة وإلا فقد تقدير الناس له. وثانيها القراءة الكاملة، بحيث لا يتوجب التوقف عن قراءة عمل ما أبدًا، وإنما قراءته كاملًا. وآخر محور الكلام عن الكتب، بحيث لا يستطيع أي شخص الحديث عن أي كتاب حتى يقرأه كاملًا، وهو ما يعارضه الكاتب بشدة.
يشجّع الكاتب على إيجاد نظرة شمولية نستطيع بها إيجاد العلاقة بين الكتب، بحيث إيجاد العلاقة بين مجموعة من الكتب يغني عن قراءة مثيلاتها. ويقول بهذا الصدد:”الفكرة الشمولية توحي بأن الثقافة الحقة يجب أن تنزع إلى الاستيعاب الكلي ولا يجوز لها أن تختزل إلى مجرد مراكمة للمعارف التفصيلية.” ويقول:”العلاقة بين الأفكار أهم بكثير في مجال الثقافة من الأفكار نفسها.” ويزيد على هذا الكلام قائلًا بأن المثقف هو من يجد طريقه بين الكتب، أن يضعها في مجموعات، أن يعرف تصنيفها وعلاقتها ببعضها. ولهذا فأي مثقف يختار هذا المسار يستطيع أن يتحدث عن أي موضوع وكتاب دون عناء يذكر.
يحذّر الكاتب من كثرة القراءة، ويبرر قوله هذا بأن كثرة القراءة تسلب الإبداع من الكاتب، بحيث يغدو أسلوبه الكتابي طبقًا عن الأصل عن كتابه أو كاتبه المفضل. ويقول:”الثقافة تحمل معها فخ الغرق في كتب الآخرين، وهو فخ لابد من تجنبه لمن أراد أن يصير هو نفسه مبدعًا.” ويكتفى بالتصفح والنظرة الشمولية على الكتب بدلًا من قراءتها كاملة. ويسأل سؤالًا جوهريًا بهذا الصدد:”أي القارئين أفضل، من يقرأ كتابًا قراءة متعمقة ولا يستطيع أن يحدد موقعه أم من لا يدخل إلى أي كتاب ولكنه يتجول في كل الكتب؟”
الكتاب الداخلي الفردي والكتاب الداخلي الجماعي، هما مصطلحان أطلقهما الكاتب على المعرفة المتراكمة، الفردية منها والجماعية، ما بناه الفرد من قراءاته وما بنته جماعته من أفكار ومبادئ. كل حوار متبادل بين شخص وآخر يمر بالمكتبة الداخلية للفرد، يقارنها بما قرأه وجمعه طوال حياته، في مكتبته تلك، يزيد ويحفظ ويقص ويلصق، ولا تغدو عملية القراءة سوى لصق وبناء للمكتبة الداخلية، فتقوم عملية تدوير لتلك المكتبة في كل مرة يستسقي بها الفرد أي موضوع، ولذلك يكون المقروء مقصوصًا تارة، ومنسيًا تارة، ومطرودًا من المكتبة تارة أخرى. وبهذا يقول الكاتب بأن كل ما نقرأه معرض لتلك العمليات، ولذلك الحديث عن أي كتاب قرأناه معرض لتأويل، لإضافة، ولحذف، ولن نتحدث عنه أبدًا كما كان مكتوبًا.
يذكر الكاتب أيضًا بأن أي كتاب هو امتداد لكاتبه، وبمعرفتنا الحقة عن الكاتب نستطيع توسم محتوى كتابه بدون أن نسمع عنه أي تفصيل. وللحديث عنه يكفي أن نعرف تصنيفه وعلاقته بين الكتب وهذا ما سيكسبنا نظرة شمولية وكافية للحديث عنه بدون قراءته. ويزيد على ذلك أن الحديث عن أي كتاب ليس سوى الحديث عن مكانته في تلك اللحظة، عن آراء النقاد فيه، القراء، ومبيعاته. كل شيء في الكتاب متحرك، قد يكرهه الناس للحظة وقد يمجدوه في لحظة أخرى، وهذا يساعد بشكل كبير على الحديث عنه بدون التطرق إلى تفاصيله. وذكر أخيرًا اقتباسًا لأوسكار وايلد:”من السهل أن تعرف -في نصف ساعة- إن كان الكتاب يساوي شيئًا أو إن كان عديم قيمة، بل إن ست دقائق يكفين لمن يمتلك حس الشكل، وإن كان الأمر كذلك، فلم يتعب أحدنا نفسه بقراءة الكتاب الممل كله؟ كل ما عليه أن يفعله هو أن يتذوقه، وأعتقد أن هذا يكفي وزيادة.”
لا يدعو الكاتب إلى ترك القراءة كليًا بل يسعى إلى تصحيح الفكرة القائمة على ألا قراءة لكتاب سوى من الجلدة للجلدة.
يشجّع الكاتب الكذب في حالة وقوع الشخص تحت السؤال المصيري عن كتاب لم يقرأه، يشجع الخوض في نقاش طويل بحجة الحفاظ على ماء الوجه في المجتمع الثقافي. وكرأي شخصي، لا يهمني بتاتًا رأي المجتمع الثقافي في قراءاتي، وأفضل أن أرى كشخص محدود الثقافة بعدم قراءتي لشكسبير على أن أكذب وأمسك بالجرم المشهود كاذبة. لا أرى الحاجة الماسة للادعاء، فما دمت أستطيع إنتاج منتوج ثقافي مقروء ومفيد، وأشارك في عدة نشاطات ثقافية، وأؤدي المطلوب مني على أكمل وجه، فلا أظن أن عدم قرائتي للإلياذة شرخ يشوّه من صورتي. وأفضّل الاستماع عن الأسباب التي تدعوني على قراءتها وحبكتها خلال النقاش، فضلًا عن الكذب بشأني قراءتي لها.
ومع أنني ضد نظرية الكاتب تلك، إلا أنني أتفق معه في إمكانية النقاش عن الكتب بعد تصفحها، وأتفق معه في إمكانية الحديث عن كتب لم نقرأها لكاتب تمت القراءة له مسبقًا.
قليل هم الكتاب الذين تتغير أساليبهم وأفكارهم من كتاب لآخر، وعشرة دقائق من التصفح لأي كتاب منها قد يغني عن قراءته كاملًا، وإتباع ذلك بقراءة ملخص أو تعليقات عن الكتاب تعطي البطاقة للنقاش عن الكتاب بدون قراءته من الجلدة للجلدة.
ومع أنني لم أجد ضالتي، إلا أنه أعطاني تصورًا عن الطريق الذي يتوجب علي سلكه، تحدث عن القراءة، عن الكتّاب، وعن الكتب. الكتاب ممتع وقصير، لذلك قررت إكماله بالرغم من عدم توفر ما أردته وسعيت له.