أعني ذلك فعليًا، قضيت شهرًا كاملًا ما بين كره وحب للسلسلة، أحببتها لدراميتها وحبكتها المترابطة، وكرهتها لطولها وصعوبة نطق أسماء شخصياتها، بالرغم من ذلك فأنا سعيدة أو بالأصح مبهورة، وأعلم الآن لما تتصدر الرواية أي قائمة عالمية لأفضل الروايات، ولو كانت مسؤولية كتابة قائمة أفضل الروايات العالمية تقع على كاهلي لوضعتها أنا أيضًا على رأس القائمة.
كانت الرواية هدية تخرجي من الجامعة بناء على طلبٍ مني، وكانت نسختي تقع في ثلاثة أجزاء من دار الحرف العربي. رغبت بقراءتها بشدة منذ سنة ٢٠٢٠، وزادت رغبتي بعد سماعي لبودكاست أفضى فيه الضيف بأنه قرأها في اثني عشر يومًا، فعزمت في نفسي على أن أقرأها في خمسة عشر يومًا، نظرًا لتخطيطي لقراءة مئة صفحة في اليوم الواحد، إلا أنني لم أكن في معزلٍ عن مهامي وواجباتي اليومية، بالرغم من تخصيصي لوقت خاص بالرواية، تراخيت في بعض الأوقات وانتهى بي الأمر في قراءتها خلال سبعة عشرًا يومًا. فصلت بين قراءاتي بكتابين لعمر طاهر، كما تقتضيه عادتي أثناء قراءتي للروايات الطويلة، وبذلك كان شهرًا كاملًا من الحرب والسلم.
يجب علي القول بأن هذه أولى قراءاتي لليو تولستوي، ومن اعتاد على قراءة الروايات الروسية لن يجد صعوبة في القراءة لتولستوي، فالأسماء الكثيرة الصعبة هي ذاتها، بالرغم من عدد الشخصيات البالغ الخمسمئة وتسع وخمسين إلا أن القارئ يعتاد عليها بمرور الصفحات. تتخلل المجريات الدرامية للرواية عدة مقالات وآراء للكاتب، تحدث عن الأساليب الحربية، آراءه عن مجريات الحرب، عن الزواج وعن نابليون نفسه. ترجمة الكتاب سلسلة، لا يوجد أي سطر صعب القراءة، أو كلمات في غير مكانها. وأما بالنسبة للعلاقات والمواضيع الحميمية فقد تكون هذه الرواية أعف وأنظف رواية قرأتها، أقصى ما ذكر فيها كلمة “قبلة” وأقسى ما ذكر فيها وصف الحالة المرضية لإحدى الشخصيات، ولا أنسى أن أقول بأن نهاية الرواية سعيدة، بل وسعيدة جدًا على غير ما توقعت.
بالوصول إلى الشخصيات والحبكة، فأهم الأحداث تقع بين أربعة عوائل وهي: آل بوزوخوف، آل روستوف، آل بولكولونسكي، آل كوراجين. تعاطفت وبشدة أول الأمر مع شخصية تدعى بيير، ابن غير شرعي، وحيد، كثير الكلام وكثير الشرب، ولمكانة والده ولإمكانية أن يكون وريثًا مليارديرًا فإنه يحصل على تذكرة دخول أي اجتماع أو سهرة بالرغم من طبيعته الهوجاء. وشعرت بالعاطفة تجاهه كونه محسود وبلا أصدقاء حقيقيين يعوّل عليهم، بالإضافة إلى قبحه وضخامة جسده الذي يجذب الأنظار أكثر من تصرفاته العشواء. وداخل هذا الصندوق من الصفات الغير مرغوبة قلب أبيض نظيف لم يجرب الحب يومًا، لم يكن محبوبًا ولم يحب هو بدوره، وحتى عندما أحب أو لأكون أكثر دقة عندما زُج به في علاقة كان تأثيرها السلبي عليه أكثر من نفعها، فأصبح قبيحًا عملاقًا وحزينًا. تتبدل به الأحوال- وهو من أكثر الشخصيات التي استمتعت بتعقب حياته- ويشارك بالحرب، يغير دينه، يبحث عن معنى لحياته، حتى أنه نحف عن سابق عهده، فأصبح قبيحًا نحيفًا وحزينًا، ولكن سرعان ما تتبدل حياته هذه.
أندريا، أميروسيم وذكي ومتزوج من امرأة جميلة، يشارك بالحرب بالرغم من عدم حاجته لذلك، إلا أن أفكاره عن التضحيات والوطن والحب تختلف عن الجميع، فيترك امرأته الحامل ووالده العجوز وأخته الوحيدة ويسافرًا أميالًا ليشارك بالحرب. وأما عن أخته الوحيدة ماريا فهي التجريد لمعنى الإيمان والإخلاص والروحانية. طيبة القلب، ومؤمنة لا تتوقف عن الصلاة ولا عن العطف وتقديم الصدقات للمحتاجين، ولكنها أيضًا تعاني من تقاسيم وجهها التي تنفّر الناس عنها، وتعاني بدرجة أكبر من والدها الذي يتلذذ بتعذيبها بأوامره وكلماته الجارحة.
وأخيرًا ناتاشا وأخيها نيكولاي وابنة عمهم سونيا، تدخل ناتاشا الحفلات الراقصة لأول مرة، تتسلى بنظرات الجميع نحوها، تعلم بأنها جميلة ومرغوبة، نتتبع حياتها من السرور الطافح على وجهها ورقصاتها وغناءها حتى المصيبة التي وقعت لها، فنشهد وجهًا آخر لناتاشا المرحة المحبوبة، تسقط مريضة بسبب الحادثة الكئيبة، وما أن تشفى حتى تضع الحرب أوزارها وتضطر العائلة لترك المنزل. نيكولاي على الجهة المقابلة، فهو واقع بحب سونيا منذ صغره، وهي كذلك تبادله الحب أو ربما تصل لحد عبادته، إلا أنه يضطر لمغادرتها، ويقع في النهاية بين قلبين.
تتاقطع تلك الشخصيات في الحفلات أو في ساحات الوغى، يضحكون ويبكون، يتشاركون في كره نابليون وبعضهم لا يفكر فيه إطلاقًا، يخرجون من الفقر إلى الغنى والعكس، تتخبط شخصياتهم وعلاقاتهم ببعضهم، وتتشابك في مشاكل سرعان ما تنفك.
تقترب الحرب تدريجيًا للمنازل، وتنتشر الجثث في كل مكان، وما زالت الطبقة الأرستقراطية في نواديها، يناقشون قرارات الحاكم، ويخططون لحفلات أكثر، وهمهم الأكبر أن يبرزوا في اجتماعاتهم تلك بأفكار تجتذب النساء أكثر فأكثر، وأن يكونوا أقرب فأقرب للحاكم، وأن يحصدوا أوسمة يستعرضوا بها أثناء رقصاتهم.
لم تقتصر الرواية على الشخصيات تلك فقط، وإنما جزء كبير منها يشرح خطط نابليون وطريقة تفكيره، عن أساليبه الحربية وعن شخصيته كقائد وكإنسان. وبدون أي معلومة عن نابليون فأعتقد بأنني كسبت كرهًا عميقًا له، ولكن بأفكار كثيرة تصوّر لي مكانته في ذلك الوقت.
وهنا اقتباسات:
“ظلت نظرته غارقة في أعماق نابليون، يفكر في غرور العظمة وبطلانها، وفي تفاهة الحياة الزائلة الفانية، التي لا يمكن لأحد أن يدرك معناها ومرماها، وبطلان الموت نفسه الذي كان مدلوله مغلقًا أبدًا على مفاهيم الأحياء.”
من تساؤلات بيير:”ما هو السييء، وما هو الحسن؟ ماذا ينبغي أن يحب المرء وما هو (الأنا)؟ ما هي الحياة وما هو الموت؟ وما هي القوة التي تسير كل هذا؟” ، “هل يستطيع المال أن يشتري أوقية من السعادة وراحة الفكر؟”
“إن الإنسان لا يمكنه أن يقرر الحق والباطل، الظلم والعدل. إن هذه هي النقطة التي أخطأ فيها الإنسان أكثر من غيرها، وسيخطئ في تقديرها أبدًا.”
“إنني لا أعرف في الحياة إلا سيئتين حقيقيتين، المرض وتبكيت الضمير، ولا شيء أحسن من غيابهما عن النفس والجسد.”
“الثراء والسلطان والحياة وكل ما يجهد الناس بشدة لكسبه والمحافظة عليه لا يصبح ذا شأن إلا بالبهجة التي تغمر قلب الإنسان عند استطاعته هجرها.”
“حرية انتقاء المشاغل الشخصية، أي لون حياة الشخص الخاصة، باتت تبدو الآن له السعادة الحقيقية القصوى للإنسان.”
“الانسان خلق للسعادة، وأنه يحمل سعادته في نفسه، في إرضاء نزعاته الطبيعية، وأن كل شقاء يصيبه سببه نقص أو زيادة في ذلك الإرضاء.”
“إن الجمال لا يصنع الحب، بل الحب هو الذي يصنع الجمال.”
قرأت بأن الرواية لا تمت لعنوانها بصلة، فلا سلام فيها، وإنما حروب في حروب، وفيها العديد من المفاهيم كالموت والحياة والزواج والسياسة، وقد تكون تلك المواضيع أنسب إن وضعت في العنوان بدلًا من العنوان الحالي، لكنني أرى بأن العنوان الحالي شامل وبليغ، ويصف بدقة الرواية. فالحرب المذكورة حرب فعلية بمسدسات ومخططات، وحرب نفسية، وحرب لمعرفة الحياة. وهي أيضًا سلام، سلام فكري، سلام شعوري، وسلام جسدي في أغلب أحداث الرواية. وأظن بأن عنوانها الحالي بديع ومختصر ولا يوجد أفضل منه، إلا إن أتيحت لي الفرصة بإعادة كتابته.
أعتبر هذه الرواية أفضل رواية طويلة قرأتها في هذا العام، وقد تكون أفضل رواية عالمية بالنسبة إلي، وقد يتغير رأيي قبل نهاية السنة من يعلم، فما زلت أردد أن مدن الملح أفضل رواية كتبت.
وحتى تجد رواية الحرب والسلم مكانها لدي، وحتى الإثنين القادم، إلى اللقاء يا أصدقاء.
Pingback: ١٢ كتاب، ١٢ شهر (٢٠٢٣) – محاولات