ينادي من مكانه:”عبدالله تعال باالله” لا يجيب عبدالله بالطبع من النداء الأول، لا يجيب الإخوة الكبار من النداء الأول أبدًا، كقاعدة مسلم بها في كل مكان. ينادي لمدة دقيقة كاملة، يرد عبدالله بصراخ ويقول:”الله يبلشك، وش تبي” يُطلب منه أن يساعد في إغلاق حقيبة مهترئة لا يوجد بها أي مكان حتى لفرشاة الأسنان الخاصة بصاحبها. يجلس صاحب الحقيبة عليها بينما يقوم عبدالله بجر السّحاب، ينقطع السحاب في منتصف المسافة، يسب عبدالله ويلعن، يتوتر أخوه فوق الحقيبة، يمسح جبينه، ويقول:”طيب أنت أجلس فوق الشنطة وأنا بسكر السحّاب.” يتبادلان الأماكن، يسحب باستخدام اصبعين، السبابة والإبهام، تؤلمه أظافره، لكن تتكلل المهمة بالنجاح وبابتسامة منه، بالإضافة إلى ضربة تلقاها على رأسه من عبدالله، كقاعدة ثانية مسلم بها من الإخوة الكبار.
يذهب إلى غرفة والدته التي تركت حقائبها مفتوحة وذهبت للتتأكد من أن الجميع أخذ ملابسه من حبل الغسيل. يضع فرشة أسنانه في جيب حقيبة والدته الخارجي. يخرج من الغرفة ويصتدم بها في طريق عودته، يقول لها:”يمه ترا حطيت فرشة أسناني معك لا تطلعينها ما عندي مكان.” وفي اللحظة التي التفتت له لترد على عبارته، هرب راكضًا لغرفته.
يحرص على ألا يحمل حقيبته غيره، ينزلها من الطابق العلوي منقطع الأنفاس، يجلس والده في الصالة، يشرب بيالة من الشاي، ينتظر أن ينتهي الجميع من حزم حقائبهم. يحاول ألا يجذب انتباه والده، يسحب حقيبته نحو باب المنزل، يسأله والده:”وش عندك عجل؟” يجيب أباه قائلًا:”موب مستعجل ولا شيء، بس عشاني خلصت بدري بطلع شنطتي أول واحد.” يخبره والده بأن ينتظر ريثما ينتهي الجميع، وسيخرجون الحقائب مرة واحدة.
يحاول أن يجد مكانًا بين إخوته ووالده أمام باب السيارة الخلفي، يحاولون صف الحقائب بطريقة تسمح لجلوس شخص واحد بينها، والذي حتمًا سيكون مكانه، كونه الأصغر، وأكثرهم حديثًا، ووضعه في مؤخرة السيارة تحد من أحاديثه الغير منقطعة بأي ناقة تمر بجانبهم على الطريق، أو أغنية تشغل عبر المكبرات الصوتية في السيارة، دائمًا ما يجد ما يتحدث عنه، ولو كان ذلك ذبابة تطير أمام وجهه. يحمل حقيبته بيديه ويقترح لوالده أن يضعها في أقصى اليمين، يحاول والده إسكاته قائلًا:”اصبر شوي أدور مكان ثاني أحسن” ويقترح بعدها على والده أن يضعها في أقصى اليسار، وبسكوت والده عن الإجابة وعن وضعها في المكان الذي يقترحه هو، يكسبه ذلك فرصة لاقتراحات اكثر، فيقول:”طيب يبه شف فيه مكان فوق العزبة، ولا أقول لك فيه مكان تحت رجلين أمي” ينفجر والده غضبًا ويقول:”لا سق السيارة بدالي أحسن، أكرمنا بسكوتك الله يعافيك”.
بعد دقائق طويلة من ترتيب الحقائب وصف الأغراض، قال الأب:”قضينا، خلو الأستاذ الي ما يعتمد على ابوه يركب بين الشنطة السوداء وشنطة أمه الحمراء” جلس بين الحقيبتين، المكان مريح بعض الشيء، كونه يجلس على حقيبته. وبعد أن ركب الجميع أخيرًا، وانخفض معدل الاكسجين بالسيارة ذات الثلاث مراتب، قالت الأم:”يوووه نسيت قدر الضغط، يطمر واحد منكم يجيبه، تراه عند باب المطبخ، ما ادري شلون نسيته” ينفجر الأب غضبًا، كمن كان ينتظر دوره في طابور، فرصة منتظرة منذ استيقاظه في صباح يوم السفرة، وإن كان يغلي ويشتعل من خارجه، فإنه سعيد من الداخل بقدرته على التحكم بأسرته بكلماته فقط، بدون الحاجة إلى أن ينزل من كرسيه أو حتى أن يلتفت. يذهب الابن الأكبر راكضًا لداخل المنزل، ويعود ليضع القدر في مؤخرة السيارة، تحت أقدام أخيه، يختزل توازن جلسته، وأصبحت حركته أصعب.
يصلون لوجهتهم بعد طريق مدته سبع ساعات من المعاناة، سبع ساعات من النزاعات على مشتريات البقالة، وعلى مسؤولية صب القهوة والشاي. يصلون إلى الديرة التي نشأ بها والدهم، سيقضون بها شهرًا كاملًا، سيحضرون عيد الأضحى وما بعده من اجتماعات حتى نهاية الشهر.
تؤلمه حقيبته التي يجلس عليها، لا توجد بها زاوية مريحة للجلوس، إلا أنه سعيد بأن أمره لم يكشف بعد. يتخيل طوال الطريق المتعة التي تنتظره فور وصوله، أصدقاءه الذين لم يرهم لسنة كاملة، الليالي التي سيقضيها بالسهر، وأمواله التي سيصرفها في البقالة مع أقرباءه. يتخيل اللحظة التي سيخرج بها ما في حقيبته، ولحظة تنصيبه كقائد لكل أنشطة الشلة؛ كونه الممول الأول لنشاطاتها، وأسرعهم ركضًا.
البيت الذي سيقضون به الإجازه مشرّعة أبوابه، أطفال بانتظارهم يجلسون على السلم الخارجي، مجموعة من المراهقين يتميزون بملابس غريبه يشجع بعضهم بعضًا على لبسها، أكمام مسفّطة، وقبعات لبست معكوسة، يتحدثون ويتحدون بعضهم بأصوات مرتفعة أمام أسوار البيت. نساء يتشحن بالسواد وبألوان فاقعة تطل من أسفل العباءات، يمسكن أطراف عباياتهن ليستطعن المشي بدون أن يطأنها، يدخلن البيت، مع سلال مملوءة بالكراث والكعك الساخن المعد حديثًا.
ينزل الجميع من السيارة، أو تلفظهم السيارة ويسقطون من على جوانبها، تسقط الأغراض تباعًا. تتجه النساء مباشرة للداخل، بينما ينشغل الرجال بالسلام، وإنزال الحقائب. نسي الكل المسافر على متن الحقائب، لم يسأل عنه أحد، ولم ينتبه لغيابه أي شخص. حقيبته مفتوحة، وموجودة في مكانها بين الحقائب، إلا أن صاحبها مفقود، بالإضافة إلى أهم غرض فيها، الكرة الجلدية.
فور وقوف السيارة، فتح حقيبته وأخذ الكرة الجلدية الموجودة فيها، وترك بقية الممنوعات، ترك أوراق البلوت، والأونو، وحلوى الجيلي وحلوى المصاص التي تلوّن الفم، والألعاب النارية من صواريخ وقنابل. نزل سريعًا واستغلّ انشغال الجميع، اتجه للباب المفتوح، وخرج ركضًا للشارع، تتذكر أقدامه الطريق، يلتف ويقف بناء على ذاكرة أقدامه، فهو نزيل شبه دائم في بيت السليّم. في كل مرة يأتون فيها للديرة، يذهب للمبيت أحيانًا لديهم، يلعب الكرة مع أبناءهم، ويؤدي دور السائق مع فتياتهم. وجوده دائمًا مرحب به، يأخذونه معهم لمزرعتهم، ويسبح مع أبناءهم في مخزن الماء الطيني في المزرعة. في اللحظة التي وقف فيها أمام الباب، شعر بأن هنالك شيئًا مختلفًا، خفق قلبه، واستشعر خبرًا سيئًا، فالعلامة الأولى التي دعته لهذا التفكير باب المنزل المغلق، فهم لا يغلقون بابهم أبدًا، بل يكتفون بفتحه جزئيًا. طرق الباب وفتح له وجه جديد عليه، وجه غير مألوف بتاتًا، فتى قصير، سمين، بشعر أشعث وأسنان مفرقه. يسأل الفتى السمين قائلًا:”من أنت؟ وش تبي؟” يرد عليه بصوت ملأه الفزع:”وين ناصر؟” رد السمين قائلا:”ناصر السليّم شد، كل أهله شدوّا، راحوا للرياض.” انتابته رعشة خفيفة، وشعر بعدها بأنه أثقل، خطواته بطيئة، وفكره حائر، وقبل أن يبتعد عن عتبة المنزل، جاء صوت من خلفه يقول:”تجي عندنا بالحوش نلعب مع بعض كورة؟” وبدون أن يفكر مرتين، دخل المنزل، وأغلق الباب.
وبعد مدة ليست قصيرة، التفت الأب إلى غياب ابنه المسافر على متن الحقائب. اجتمعت شلة ابنه أخيرًا، خمسة من الأولاد بجباه كبيرة، كعلامة على أنهم أبناء عمومه، وأسنان ما زالت تسقط ويتم استبدالها. جائوا ليسألوا عمهم عن ابنه الذي لم يحضر بعد، وكانت تلك بداية الفزع. انعقد اجتماع سريع في المجلس، سئل الجميع إن كانوا رأوه، لكن لا إجابة بالموافقة، وكأنه لم يأتي معهم من الأساس، إلا أن الأب كان متأكدًا بأنه كان على متن السيارة، من رأسه التي تحجب الرؤية عن السيارات في الخلف. هل من المعقول أنهم نسوه في المحطة؟ كما كانوا يضحكون دائمًا لعى حلقة طاش ما طاش التي نسوا فيها جدتهم في المحطة. يقلب الأب رأسه، يحاول طرد أفكاره المشؤومة، ويقرر أن ينقسم الجميع للبحث عنه.
انطلقت السيارات، كل سيارة في شارع، وبدأ المراهقون البحث في البقالات والمساجد، وأما المنظر من زاوية الأمهات، فهو مأساوي إلى حد كبير، انقلبت جلسة الشاي بالكراث إلى عزاء تقريبي، تقول أمه بأنها منذ ولدته ولديها إحساس بأنها ستفقده، بأن أيامه معدودة، فالولادة اليسيرة لا تعني إلا عواقب وخيمة، والعكس صحيح. الاتصالات لا تتوقف، الهاتف يرن، وتتدفق الزائرات من الباب، يحاولن التهدئة مرة، ويحاولن الإشراف مرات.
انقضت أربع ساعات، عاد الجميع للبيت. منتصف الليل، الأم تبكي، والأب يغرق في الصمت. يحاول العم الأكبر حل الموضوع، يتصل بأقربائهم الباقين، يستأمنهم على حفظ الخبر عن الجدة، حتى يجدوا الحفيد الضائع في الديرة. يقسمون باقي المناطق والمنازل على بعضهم بعض للبحث مجددًا في الغد، يبحثون عن خطوط تساعدهم على إيجاد طريق للبحث، يبحثون في حقيبته لأي شيء قد يدل على وجهته، رقم يتصلون به، أو اسم مكان ليتوجهون إليه لكن لا شيء. وفي أثناء حديثهم عنه وعن الأماكن التي قد يكون ذهب إليها، يقطع حديثهم صوته واقفًا أمام باب المجلس، يقول والابتسامة تشق وجهه:
“تدرون إن السليّم راحوا الرياض؟ جت عايلة جديدة ببيتهم، رحت أدور ناصر وما لقيته وجلست ألعب عندهم كورة.”