خرجت من المنزل، منزل بطلاء أبيض وشرفات لا يمكن الخروج إليها. مصابيحه كثيرة، قاموا بتشغيلها كلها، أشبه بمحل للأواني أكثر منه لمنزل. أتنهد، ولا ألتفت ورائي، تضع والدتي يدها على كتفي، تقول:”ما عليك يا وليدي، ما كثر الله من البنات.” ولم تكن تلك المرة الأولى التي أسمع بها تلك الجملة، بل هذه هي المرة العشرين. أمسك العقال والشماغ وأسحبهما معًا من على رأسي، أرميهما في المرتبة الخلفية، وأرمي فوقهما الطاقية. تجلس والدتي بجانبي بمقعد الراكب، تكرر علي مواساتها التي سمعتها لعشرين مرة، وقد توصلت إلى أن والدتي تفتقر إلى الحس الإبداعي بالمواساة، الكلمات ذاتها، تعيد ترتيبها في كل مرة، تشقلب كلماتها، تزيد من الأدعية، وتحاول تغيير الموضوع إلى أنها ستقوم بإعداد عشاء ينسيني هذا كله، ويكون العشاء نفسه في كل مرة، معكرونة حمراء أعدت بالكاتم. الوقت متأخر لتقوم بشيء آخر، والجميع في المنزل جياع، وقد وعدتني بإعداد العشاء؛ لذلك لا تستعين بأي تطبيقات توصيل الطعام. وبهذا ارتبطت المعكرونة الحمراء برأسي بشعور الرفض، كما لو كانت التوفو الذي يتناوله الكوريين بعد الخروج من السجن، أتناول أنا المكرونة الحمراء بعد أن أرفض الفتاة أو بعد أن ترفضني هي، يتناول الكوريون التوفو كبداية جديدة بعد الخروج من السجن لما يرمز له لونه الأبيض، بينما أنا آكل المعكرونة الحمراء التي لا تعني شيء سوى أنني سألاقي المزيد من الرفض، والذكريات الحمراء المليئة بالغضب والضغينة.
في الجلسة التي دامت عشر دقائق مع الفتاة، التي كانت المرشحة الأولى في قائمة زوجاتي المحتملات، والتي قمن أخواتي بالمزايدة عليها بأنها هي المناسبة، بأننا سنكون كالقدر وغطائه، وبأنها قطعة الأحجية الناقصة لحياتي، رفضتها بعد الدقيقة الثالثة. لم تكن تشبه رؤى الصبان بأي وسيلة، لم تكن بنفس لون بشرة رؤى، بل حنطية قريبة للسمار، وشعرها أشقر، أكثر نحفًا بكثير من رؤى وترتدي ملابس شبيهة بملابس عصر النهضة. قطع ملابس كثيرة فوق بعضها البعض، أكمام طويلة ومشّد ملون. شعرت بالاختناق بالنظر إليها، ولا أعلم كيف لها أن تتنفس تحت ذلك كله، وبعد استفساري عن ما ارتدته من والدتي، أخبرتني:”وش دراك أنت عن الموضة، هذا اللي يلبسونه البنات الحين، بالعكس وش زين لبسها يهبل.” ولا أعلم إن كانت والدتي تحاول خداعي بانعجابها هذا أو أنها بالفعل تعني كلامها، لأنني لم أفكر بشيء سوى أنها ترتدي مريولًا مدرسيًا شبيهًا بما ترتديه اختي التي في المرحلة الثانوية. والأغرب من هذا كله، مكياجها. حرصت على أن أخبر والدتي بأن تخبر الفتاة ألا تضع الكثير من المكياج، أريد أن أراها على حقيقتها، وأكره أن أخدع بلون عين أو بطول رموش. ولكن وجهها كان أشبه بدمية، خدودها حمراء بشدة، وتسلل اللون الأحمر حتى وصل طرف أنفها. رموشها الصناعية طويلة، أشعر بنفحة هواء في كل مرة ترمش، وحواجبها شبيهة بخط مرسوم بالمسطرة، تبلغ المسافة بين طرف حاجبها وأذنها ثلاث ملمترات.
توقفت عن مقارنتها برؤى الصبان، الشكل ليس كل شيء كما يقولون. كانت بشوشة بالرغم من كل ذلك، تبتسم باستحياء، لا ترد إلا بصوت منخفض، تضع يديها في حجرها، وترفع بين الحين والآخر خصلة تتمايل على جبهتها، تلقي نظرة علي لمدة أجزاء من الثانية وتخفض بصرها مجددًا. أدارت والدتي الحوار في البداية، واستلمت أنا الدفة بعدها. وفي لحظة من الصمت سألتني سؤالها الأول بصوت مختنق دقيق أشبه بالهمس:”وشو برجك؟” وسؤال كهذا لم يخطر ببالي أبدًا، إلا أن أخواتي في جلسات المساء التي تخلو من الجديد، قمن بإخباري عن برجي، حللن شخصيتي بعدة اختبارات. أجبرنني على القيام باختبار من خمسين سؤال، ووقعت توقيعي المعتاد، واختبرن اختياراتي في قصة يحكينها ويطلبن مني أن أكملها عنهن. قمت بكل أنواع الاختبارات، وما زلن حتى هذه اللحظة يقلن:”ايه برجه عقرب، غامض ما تدرين عنه شيء، بكل اختبار تصير له شخصية.” أجبتها بأن برجي العقرب وتبع جوابي شهقة منها أفزعت والدتي. قالت البنت بابتسامة واسعة:”أنا برجي الجوزاء.” تبعت إجابتها لحظة صمت مطولة، قطعتها والدتي قائلة:”ووش يعني ذا الكلام؟” ردت البنت بخجل مرسوم على وجهها وارتياح بادي بعينيها:”يعني أنا وياه ما نناسب بعض، شخصياتنا غير عن بعض.” نظرت والدتي لي باستغراب، وعادت بنظراتها للبنت وقالت:”الله يصلحك وش هالكلام” قالت البنت:” يا خالة أنا جوزائية، عندي علاقات صداقة كثيرة، مزاجي يتغير كثير، وأسولف أكثر وأكثر، وأحب الوضوح والصراحة. ولدك عكسي بكل شيء تقريبًا، غامض وما يحب الصراحة، والصراحة غيور بشدة وأنا ما أتحمل الغيرة الشديدة.”
تبادلت أنا ووالدتي النظرات، أشعر بوالدتي تفقد السيطرة على نفسها، وإن لم ننهض الآن قد تكون نهاية علاقتنا مع أهل المنزل. أردت الوقوف والاستئذان من الفتاة والخروج، إلا أنها استوقفتني قائلة:”بس بقول لك إن آخر خمس أيام من هالشهر فيها طاقة نجاح قوية لبرج العقرب، فرصة لك تسوي أي شيء تبغاه، لو كنت تبغى تخطب بنت أو تبيع شيء حاول تخليه خلال ذي الأيام، لأنها آخر أيام نجاح لهالسنة بالنسبة لكم معشر العقارب، اللي بعدها راح تكون أيام تحدي وصبر، استغل الوضع.” ضحكت، شكرتها ودعوت لنا بالتوفيق وخرجت أنا ووالدتي من المجلس.
لم تتحدث والدتي طوال الطريق، أراها تستغفر باستخدام سبحتها الصفراء التي أعطاها إياه والدي في العيد الماضي، وأراهن بأن أخواتي سيتلقين درسًا مختلفًا عن دروس علم التنجيم اللاتي يلقينها علي، وأراهن بأن والدتي قضت طريق العودة تراجع قائمة العرائس المحتملات في القائمة وتحذف منها من ترتدي المراييل المدرسية كفساتين.
توقفنا عند باب المنزل، أمسكت والدتي بساعدي، همست لي:”وش رايك بس نكلم خطابة؟ ونقول لها أنك عقربي.”.
*
كان الإلهام لهذه القصة هذه الكلمات (نهضة، عقرب، علم التنجيم)