تسحب بإصبعها شاشة هاتفها إلى الأسفل، تدور وتدور علامة الانتظار وتتتوقف، لا صور جديدة ولا محادثات، تتنهد وتغلق هاتفها. تضع يدها على خدها وتتأمل شاشة التلفاز أمامها، لا رغبة لها بمشاهدة أي شيء، تفتح هاتفتها مجددًا بالرغم من إغلاقها له قبل ثواني، تكرر نفس فعلها بدافع العادة، وتقوم بإغلاقه مجددًا. تقول بصوت هامس:”خلني أقوم أسوي الدونات المحشية بس.”
تخرج دفتر وصفاتها المهترئ، تسقط ورقتان منه على الأرض، تأخذهما وتعيدهما للدفتر في أماكن عشوائية. اللون الأبيض للصفحات انقلب إلى الأصفر، تلتصق بعض الصفحات بفعل بقع بيضاء يابسة وبقع بنية زيتية. تقرأ عناوين الوصفات بصوت مسموع، تقلب الصفحات بشكل سريع حتى تصل إلى وصفة الدونات المطلوبة. تضرب المكونات في اثنين؛ لأنها ستعد ضعف الكمية، فاليوم الجمعة، وزيارة الجدة واجبة.
لديها عادة سيئة باستخدام الكثير من الملاعق، وضعف عدد الملاعق من الصحون. وهو ما يغضب والدتها أشد الغضب؛ بسبب عدم وجود خادمة أو غسالة صحون تقوم بالغرض، فتنتهي من الطبق بمغسلة مليئة بالكثير لغسله، حتى أن عائلتها في بعض الأحيان تضطر إلى مشاركتها الغسيل حتى يتسنى لهم استخدام الملاعق مجددًا. وتمتلك أيضًا عادة أسوء من سابقتها، وهي أنها تغسل يديها بعد أي خطوة تقوم بها في المطبخ، ففتح زجاجة يتطلب منها أن تغسل يديها، وحتى بعد أن تعطس في أكمام ملابسها، فهي تغسل يديها بالرغم من عدم استخدامها لها.
تطحن السكر، ولا توجد لديها كمية مطحونة مسبقًا كونها تؤمن بأن كل شيء يجب أن يعد في وقته وإلا لفقد سحره. تحضر خميرتها التي تقوم بتغذيتها لسبع سنوات، تقبّل المرطبان بابتسامة، مرطبان زجاجي مخصص للعسل اشتراه والدها ولم تتخلص منه، بل أرادت خلق الحياة فيه. خميرة حية لم تتوقع منها أن تعيش لشهر، إلا أنها تبلغ من العمر الآن سبع سنوات، تستأذنها وتأخذ منها ملعقة قبل أن تعيدها لمنزلها في أسفل الدولاب. تضع كل شيء في العجّانة، وهي ما تطلق عليها أفضل اختراع في المجرة. تبدأ العجانة بالصراع مع العجينة، لكمات لا نهائية، تتحرك العجانة من مكانها بسببها، تشارف على السقوط، ويتم إنقاذها في آخر لحظة وإعادتها لمكانها. ينتهي الصراع مع العجينة بعد أن تقل حدة الضربات، وهذا ما يعنيه أن العجينة لانت أخيرًا، وخضعت لمصيرها كدونات في صحن دائري أثناء قهوة المساء. تنتهي من العجينة وتدعها لتستريح بينما تقوم بإعداد الحشوة من الفراولة الطازجة والكاسترد. وذلك بمثابة مكافأة بحد ذاته، لأن إعداد صوص الفراولة الحلو أشبه بإحساس الرقص حافية القدمين في ليلة صيفية باردة.
لم يبتق سوى أن تقلي العجينة، وبعدها الحدث المنتظر، أن تحشو القطع الكروية بالكاسترد والفراولة. وذلك ما يعطيها إحساسًا بأنها فوق الجميع، أن السعادة المرتقبة هي سببها، وهي المتحكمة فيها. يدها العليا فوق الجميع، هي من تقرر إما أن يبدأوا بالأكل الآن أو أن يضعوها في الثلاجة، أن يتقاسم كل شخصين حبة أو أن يأكل كل شخص الكم الذي يريده.
لم تكن زيارة الجدة خالية من زيارات متقاطعة، ما إن يرتاح الجميع في جلستهم حتى يرن الجرس، كما لو كان لدى جميع الزوار حاسة استشعار لمدى راحة الموجودين لدى الجدة. ينهض الجميع ليتركوا المكان خاليًا للزوار الذين يجلسون لخمس دقائق، يعوث أطفالهم في المجلس فسادًا، ويعودون بكرة جلدية لأصحاب المنزل لم يتوقفوا عن البكاء لأخذها. يدخل الجميع ويتذوقون الدونات المحشية، وضع الصحن في منتصف المجلس بجانب القهوة، فلا مفر من تذوقها بعد إلحاح الجدة على ذلك. ولا تنفك الجدة عن قول:”ذوقوا هالحلا، مسويته دانة بنت وليدي.” ويذوق الجميع حلا دانة، مترددين في المرة الأولى، وببوادر إدمان في المرة الثانية.
قبل أن تنام، رسالة تعلن وجودها بصوت خافت في صندوق رسائل الانستقرام الخاصة. لا توجد صورة شخصية، والنبذة التعريفية بعيدة كل البعد عن التعريف، مكتوب فيها:”على ممشى طريق خابر أشواكه.” وأما عن الاسم فهو حروف عشوائية لا تستطيع نطق حروفها معًا. وأما عن نص الرسالة فهو خجول أو يدّعي الخجل:” اهلين دانه شخبارك؟ ان شاء الله انك بخير ابغى اسئلك عن الوصفة حقت الدونات اكلتها واعجبتني مرة وودي اسويها الله يعطيك العافيه” إحدى عشر خطأً إملائيًا في رسالة واحدة، حجبت الأخطاء الإملائية فضولها عن معرفة المرسل، فبدلًا من أن تستفسر عن شخصيته، أرسلت رسالة مطولة فيها تصحيح للكلمات التي كتبت بشكل خاطئ. تفرّش أسنانها أمام المرآة، ممسكة الهاتف بيدها اليسرى منتظرة الرد، إلا أنها تذهب للنوم بدون أن يشفى غليلها بلحظة الانتصار بعد تصحيحها لناقص الأدب واللغة العربية، فهي تنتظر شكرًا واعترافًا بفضلها.
استيقظت في الصباح على إشعار من الانستقرام، ولم تكن المحادثة سوى محاولة لإبقاء الحديث مطولًا قدر المستطاع.
“هههههه طيب انا مدحت طبخك قولي شكرا اول بعدين صححي اغلاطي”
“طيب شكرًا بس أتمنى تصححين أخطاءك”
“حتى انتي صححي اخطاءك وانصفي رجولتي وغيري الضمير”
لم تتوقع أن يكون السائل رجلًا، ولكن الأخطاء الإملائية ليست مستغربة على الرجال. أعطته الوصفة، ولكنه بشكل غريب سألها عن كل التفاصيل، وزن السكر المطحون بالضبط، الدقائق التي تحتاجها العجينة لترتاح، حرارة الزيت وعدد اللكمات التي تحتاجها العجينة لتستسلم. طال الحديث وتشعّب لعدد من الوصفات، تعطيه وصفة ويعطيها هو أخرى، حتى أن النقاش احتدم لمعضلة طبخ كبد الدجاج، إن كانت ألذ مشوية أو مهروسة.
يعلّق على القصة الخاصة بها، يقول:”الصحن رهيب” ، “الله شكلها لذيذة عطيني الوصفة” ، “تدرين لو حطيتي قطعة ثلج بالميكرويف مع الدجاج تخليه طري أكثر” والكثير والكثير من التعليقات والنصائح، حتى أنه أصبح يسألها يوميًا عن الطبق الذي ستعدّه. استغربت ذلك في البداية، وأرادت حظره فور تعليقه الأول، إلا أنها صفحت عنه بسبب صحن الكنافة الذي تركه لدى الجدة. في الزيارة التي تلي تلك الزيارة التي أعدت فيها الدونات، استقبلتهم الجدة بصحن كنافة كبير، تقطر من على جوانبه الشيرة، يلمع مع أضواء المجلس، ككرة رقص لامعة، تعكس الشيرة الأضواء على وجوه المتأملين للقطعة الفنية، تقول الجدة:”جاني راشد اليوم وجايب معه هالصحن يحسبني ميتة على الحلا”. صورت صحن الكنافة الذهبي ووضعته في القصة الخاصة بها، رآها وضغط زر الإعجاب. قال معتدًا بنفسه:”ما شاء الله وش صحن هالكنافه اللذيذ أكيد الي سواه طباخ لو يسويه بتوب شيف اكيد بيفوز.” تأكدت حينها أنه هو من أعدها لتتذوق طبخه، ولكي تذيقه من نفس الكأس قالت:”تدري لو حطيت قشطة قيمر من بوك بيطلع ألذ.”
وبما مقدراه ثلاثة فناجين قهوة من الوقت مع جدتها، أخذت تعريف كامل عن راشد. ذو جسد بعيد كل البعد عن الرشاقة، إلا أنه لم يصل بعد إلى السمنة، مملوء امتلاء يغفر له الإجرام الذي يطبخه. وصفاته أغلبها حلوة، ومتقنة الصنع بشكل عجيب لشخص لا يستطيع أن يضع كلمتين مكتوبتين بشكل صحيح معًا، وقد تكون أطباقه المثالية هي ما تعبئ فراغ نقصه في الكتابة والتعبير. كثيف الشعر، غائر العينين، أبيض شديد البياض مشرّب بحمرة طفيفة، ذو حواجب مرسومة ورموش طويلة. لا يرتدي الثياب إلا في المناسبات الرسمية، وهذا ما اكتشفته من جدتها وتأنيبها الذي رددته كثيرًا عن كونه منسلخ عن عادات الرجال وهو بذلك يصبح قليل الحياء والتربية بشكل يثير حنقها كجدة.
في كل يوم جمعة، طبق جديد لدى الجدة، ما بين حلو ومالح، تتبادل هي وراشد الأدوار، وفي مرات كثيرة يتفاجآن بطبق قد ذكره أحدهما في المحادثة. تقول:”مرة مشتهية فلافل” وتصبح شطائر الفلافل الصغيرة جاهزة بحلول يوم الجمعة. يقول:”والله اني مشتاق اسوي كيكة جزر” ليجد الكعكة تستقبله في يوم الجمعة. حرب ضروس قائمة بينهما، حرب قائمة على السكر والحب والعطاء. ومع أنها قالت بأنها لن تتزوج بدينًا كثيف الشعر أبدًا، إلا أن صحن الكنافة ذاك كان المفتاح لتغيير كل قناعاتها.
لم تكن جدتهما تحتاج للكثير من المعلومات لتعرف ما يجري، فوجه حفيدتها يشع فور دخولها الغرفة ورؤيتها للصحن، تمنع الحضور من لمس الصحن حتى تصوره، ولا تسمح لأي شخص أن يأكل قبلها، وتمنع منعًا باتًا الذم أو المدح، فهو مثالي لا يحق لأي شخص انتقاده، ولأنه مثالي فلا حاجة لأي مديح سوى مديحها هي. وأما بالنسبة لرؤيتها من زاوية حفيدها، فهو يحرص على وضع الحلا في الثلاجة حتى وصول ضيوف جدته، ولا ينفك عن استقصاء أحوال قريباته اللاتي لم ينلن على انتابهه إلا مؤخرًا، ومؤخرًا أصبح يرتدي الثوب الذي لا يرتديه سوى في الأعياد، حتى أنه يغلق أزرار الياقة التي لا طالما قال بأنها تخنقه.
أما عن نهاية هذه القصة التي طالت زيادة عن اللزوم، فالجميع مدعو لزواجهم بتاريخ الثامن والعشرين من شهر يونيو في يوم الجمعة.