زوجي مريض، أو بالأصح مجنون، وأنا أعني ذلك. ولا أقصد ذلك الجنون الذي يجعلني أقيّده في السرير، وإنما ذلك الجنون الذي يصعب تفسيره. لم يخبرني بجنونه هذا قبل الزواج، وبالتأكيد لو أنني أعرف طبيعته لما قبلت به أبدًا، ولعل هذا ما جعله يخبئ أمر معاناته عني. كنت الفتاة الثامنة عشر في طابور محاولاته للزواج، ووافقت لأنني لم أعرف عن مرضه شيئًا، وافقت لأن والدته اقتنعت بأمر إخفاء الحقيقة، وأن الحياة معًا قد تكون الحل، قد أتقبل مرضه بمرور السنوات، ولكنني في الحقيقة أمقته بمرور السنوات.
يعشق زوجي الألوان الفاقعة، يرتدي سروالًا داخليًا يستطيع أي شخص رؤيته إن توقف تحت الشمس لثواني. وسرواله الداخلي المفضل أخضر فاقع، بنقشة جلد النمر وهذا ما يزيد الأمر سوءًا. ولديه قبعة صفراء فاقعة يرتديها صيفًا وشتاءً، ولا يغسلها أبدًا خشية من أن يبهت لونها. وتضم مجموعته بنطالًا أزرقًا لمّاعًا، يقول لي بأنه يشبه السماء ويذكره بالنجوم في ليلة صيفية هادئة، وأنا لا أراه سوى قماش فستان لمّاع في قاعة زفاف في بداية الألفية. لديه قميص برتقالي شديد البرتقالية، قماشه بولستير يعكس أشعة الشمس على وجهي، وموزع جيد لرائحة العرق. ابتاع زوجي مؤخرًا غسّالة خاصة لغسل ملابسه، يخاف عليها من أن تبهت أكثر من خوفه علي أو على نفسه، وابتاع معها صابون ملابس مستورد طبيعي لا يضر بقماش الملابس.
تحملت طباعه هذه كلها، ولكنني لم أستطع تحمل إرغامي عليها. يريدني أن أرتدي قميصًا برتقاليًا كقميصه، ويشتري لي طلاء أظافر أصفر فاقع يزيد مفاصل يدي سوادًا، ويطلب مني وضعه بشكل يومي. أقصى امنياته رؤيتي بأحمر شفاه فاقع اشتراه لي بعد زواجنا، وهو بالطبع ليس أحمر شفاه طبيعيًا، بل أحمر شفاه ينير في الظلام. والسر خلف هذا الإدمان ليس رغبة بالتميز أو تفضيلات شخصية غريبة، وإنما يقبع وراء هذا الحرص مرض عجيب، فزوجي برؤيته لتلك الألوان ينسى كل ذكرى سيئة، تعمل تلك الألوان كعمل الممسحة، تمسح كل شعور سلبي، وكأنه غير موجود مسبقًا، وحرصه على لبس تلك الملابس يجعله في حالة دائمة من الانبساط، كل مشكلة تختفي في لحظة ظهورها، ينسى شعورها، ويتعامل معها كمسألة رياضية تحتاج فقط لجمع أو طرح.
يمتلك زوجي مكتبًا منزليًا أقرب إلى مكب نفايات منه إلى مكتب، يعيش بين كم هائل من الأوراق والكتب، ويقضي أغلب وقته في اجتماعات مرئية، لذلك لا يهتم بترتيب أي فوضى أو تنظيف أي زاوية سوى الجدار الذي يظهر وراءه لحظة تشغيله للكاميرا في الاجتماع. ومع أنني بعيدة كل البعد عن كوني زوجة صالحة كما يقول لأنني لا أضع أي لون فاقع في ملابسي اليومية، قررت القيام بتنظيف عميق للمكتب في اليوم الذي يذهب به إلى الشركة. وضعت جبل الأوراق الغارقة بآثار القهوة في كيس النفايات الأسود، وفوق الأوراق أكواب القهوة التي تعفنت القهوة في بعضها، صناديق بيتزا، عبوات مشروبات طاقة ومشروبات غازية، أكياس رقائق البطاطس، والكثير من الإيصالات. وضعت أقلام تحديد صفراء في الكيس، تأكدت من جفاف بعضها وأكثرها لم أتأكد منها، لأن غياب بعضها لن يشكل فرقًا، فلدى زوجي درج كامل مليء بأقلام التحديد اللماعة، ولن يلاحظ اختفاء اثنين أو ثلاثة منها.
لم يشكل ترتيبي للمكتب مفاجأة بالنسبة لزوجي، فذلك بنظره أقل ما يجب علي القيام به، واستطعت ملاحظة ضيق خفيف على ملامحه كونه أصبح في مكان غير مألوف، ولكن الضيق لم يكن الوحيد البادي على ملامحه، بل الغضب الذي بدأ تدريجيًا بالغليان. أستطيع سماعه من المطبخ يسب ويشتم، أدعي عدم سماعي له، يغلق أدراج المكتب بقوة، يسحب الكرسي لكل مكان، يحاول البحث تحت سيقانه عن قلم التحديد المفقود، ينادي باسمي وأتجه إليه محملة بجميع أنواع الأعذار. أخبره بأنني لم انتبه لأي قلم بتلك المواصفات أثناء ترتيبي، ولكنه يكذبني ويطلب مني العودة للبحث في سلة النفايات، أرفض طلبه وأخبره بأنه يستطيع شراء العشرات منه، يسشيظ غضبًا ويقول بأن ذلك القلم يحمل قصة، وأنني ارتكبت جرمًا عظيمًا برميه بلا اهتمام. يهدد بفم بدأ يزبد، يرمي بالكتب بكل اتجاه، وهرعت أنا لخزانتي، أخرجت أحمر الشفاه الفاقع وقلت في نفسي:”روج أحمر وينتهي كل شيء.” وضعت منه واتجهت إلى المكتب.
يعطيني زوجي ظهره، لم ينتبه بعد لوقوفي عند الباب، لا يزال يحدث نفسه ويقلب بين الأوراق على الأرض عن القلم، ناديته ولم يستجب لندائي، ناديته مرة أخرى والتفت بدون أن يتكلم. صوب عينيه نحو شفاهي، توقف عن الحركة، لم يغمض عينيه، وبقي على تلك الحال لدقيقة كاملة. مددت يدي لمفتاح الكهرباء، أطفأت الإضاءة، أصبحت شفاهي هي المصباح، تنير في العتمة، لون أحمر فاقع شبيه بالبرتقالي، لا أتبين ملامح زوجي في الظلام، أشعلت الإنارة، أراه يبتسم. يمتدح ترتيبي للمكتب ويشكرني عليه، يسألني عن الكتب المرمية على الأرض وعن قلم التحديد الضائع وأقول بأن القلم مفقود وأنني لم أنته من ترتيب الكتب بعد، يبتسم ويخبرني بأنه سيخرج لدقائق ليشتري قلمًا آخر.