بعد أسبوع كامل من الصمت، تفتح باب غرفتها، وتمشي بخطوات بطيئة نحو الدرج، تتوقف ممسكة الدربزين، تتسارع دقات قلبها، ترهف سمعها، خالها أتى للزيارة، تعود أدراجها للغرفة، تنتظر اللحظة المناسبة للنزول إلى الدور السفلي. بعد نصف ساعة من الانتظار، تسمع صوت الباب الخارجي للمنزل، خرج خالها أخيرًا. تعود لنفس المكان الذي توقفت فيه قبل نصف ساعة، تحاول استراق السمع لما يحدث بالأسفل، لكن لا يوجد أي صوت. تنزل الدرج، درجة درجة، تتوقف لبرهة وتعود أدراجها لغرفتها. توقفت في منتصف طريق عودتها للغرفة، أحست بالندم ينهش جسمها مبتدئًا بسيقانها، دقائق معدودة حتى ينقض عليها بشكل كامل. تعود للدرج، تنزل بخطوات سريعة هذه المرة، تتقابل هي والخادمة في زاوية الدرج، تقول الخادمة:”أخيرًا أنتِ برا غرفة، ما فيه أكل، ما فيه قهوة.” لا يوجد لديها ما ترد به على الخادمة، بل تبادرها بسؤال:” فيه أحد عند خالة؟” تقول الخادمة:” كان فيه خالي بس راح، ما فيه أحد، خالة جالسة صالة.” تشّق طريقها للصالة، تتراعد، ويقطر العرق من جبينها.
تجلس الخالة في مكانها المعتاد، تشرب القهوة في فنجالها المقدّس، وبيدها اليسرى هاتفها الأيفون، تتصفح التيكتوك بلا توقف، شيلات تم تسريعها ومحاضرات دينية أضيف لها الصدى. ترّحب الخالة بابنة اختها التي دخلت للتو مع الباب، وتقول:”هلا والله وغلا، أخيرًا حييتي.” تعلم الخالة يقينًا ما ينتظرها، وتعلم أنها مهما حاولت تأجيل وتضييع الموضوع لن يتغيّر شيء، وأنها شاءت أم أبت الموضوع لن يفتح إلا من خلالها، والحقيقة التي حاولت محوها طوال السنوات الماضية لن تمحى، بل ستحتاج إلى الاعتراف بها، وتقبّل عواقبها. تستطيع الخالة بوضوح رؤية الخوف في أعين ابنة اختها، وتستطيع شم الإصرار الذي يشتعل باقتراب الابنة منها. ترتعش هي بدورها، تضع فنجالها في الصينية، تتنحنح، تعدّل من جلستها وتدعو ابنة اختها للجلوس بجانبها.
تقول:” أبغاك يا خالة تقولين كل شيء. أنا أدري وش صار، بس أبي أعرف كل شيء منك أنتِ”
تقول الخالة بعد نفس طويل:”
امك وابوك الله يغفر لهم ويرحمهم قبل يصير اللي صار ما عليهم خلاف، امك حاطتن ابوك بعيونها، تداريه وتطبخ له وتنفخ، وعساه بس يقول يبي شي ولاش، تحطه عنده قبل يطلبه. والله امك انها شقرديه وما قصرت بس حسبي الله على اللي كان السبب. والله العظيم انه كنه امس يوم يقول ابوك انه مشتهي مفطح، وهو توه يغسل يدينه عقب الغداء بس بطش الرجال وش يدريك عنه. وما درت امك عنه الا المفطح بعد صلاة المغرب جاهز قبل لا يقول لها وقبل أي شيء، بس سمعته وهو عند المغاسل يسولف وما خلته بخاطره. وابوك بعد والله انه طير جنة، ما قصر عليها بشيء. ذرعانها ذهب، غوايش الحبة الوحدة ما تشيلها يدك، والجلابيات كلها من الكويت، كل من شافها انهبل، وأول من لبس التنورة الطبقات تراها امك، الموديلات مفصلها ابوك كلها بالكويت وعايد امك بها. امك وابوك قدر ولقى غطاه بس الشيطان ما مات، والحساد يا كثرهم يا جعلك يا بنيتي بحفظه.
ما بقى شي ما عالجنا امك به، قرينا عليها، ووديناها مصر نكشف عليها، وكل دكتور نروح له يقول ما فيها إلا العافية. حتى اننا عرضناها على النفسية، وكلهم يقولون عقلها معها ما راح، وما غير يجرجرونها من غرفة للثانية، من اختبار للثاني، وكل اختبار تنجح به، ما عليها خلاف أبد. بس من تدخل بيتها تنهبل، تصرخ، تشق هدومها، هذا كله وانتي دايرة السنه ولا ما بعد كملتي السنه شوي، ما تذكرين شي. امك شققت هدومها، تطلع تركض بالشارع، وتتقطع رجلين ابوك يلاحقها. الناس ما صارو يجون للبيت، يخافون تنهبل عليهم، ما عندها الا ابوك، ومسيكين ما بيده شي، كل شي يقدر عليه سواه.
الناس كلهم قالوا مسحورة، وانا والله يا بنيتي اني أقول يتوهمون، بس يوم شفتها تطرد ابوك من البيت وتشقق هدومه وتضربه قلت بس اكيد مثل ما يقولون. ويوم ناخذها نقرا عليها لا حركه تتحرك ولا نفس تنفس ولا كننا نقرا عليها، وهادية بس من نرجع للبيت ترجع لحالها. وانصح ابوك ذاك الوقت يطلقها وهو معيي، عجزت عنه، يقول لي ما يبي يخليها، ولا يبي يخلي بنته. وانا ما ابي الا مصلحتك ومصلحته، انا كنت خايفتن عليك من امك، خايفتن تسوي بك شي ولا تموتين جوع وهي ما تدري عنك، لين صار اللي صار.
لقو امك وابوك ميتين بغرفة النوم، امك ماخذتن الرشاش حق ابوك واطلقت عليه يوم حاول يقنعها ويهديها، واغلب الظن انها ندمت يوم شافته ميت قدامها انهبلت واطلقت على روحها. وحنا ترانا ما قلنا لك خايفين عليك، وعشان القصة قديمة ما بغينا انها تثّر عليك وعلى مستقبلك. وما دام ان الناس نسو قلنا وشوله نرجع نذكّرهم، سالفه وقضت وخلاص. والله يغفر للجميع. وأنا … ”
رفعت يدها بالهواء، تطلب من خالتها التوقف، تسمح دموعها بيدها، ترتعش شفتاها، تحاول أن تنطق بكلمة لكنها لا تغادر حنجرتها، تضطرب الكلمة وتدور في دوائر، تتدفق بعدها الكلمات، للتصادم ببعضها البعض ولا ينجح أي منها بالخروج. تهتاج معدتها، تضع يدها على فمها وتنهض، تركض متجهة إلى دورة المياه، تاركة خالتها خلفها تبحث عن المناديل لتمسح دموعها هي بدورها.
تأخذ الخالة نفسًا عميقًا، توجه أنظارها للباب الذي خرجت للتو منه ابنة اختها، تعود ذكرياتها سريعًا، ذكريات لم تغادرها أبدًا، بل أصبحت تعيش هي بداخل ذكرياتها، تحاول قص الكلمات واستبدالها، إلا أن الكلمات عصية على التغيير. تتمنى لو تنسى بعضها، أو حتى تتناساها، إلا أنها أصبحت كآثار الحروق، لا تختفي، وفي كل مرة تلمسها تشعر بآلام الحرق مجددًا.
في اللحظة التي تفاقمت فيها الأوضاع، ولم تعد الخالة قادرة على التحمل، تدخلّت لمد يد العون لأختها وزوجها. خصوصًا بعد الحادثة التي صعّدت المشكلة، وحولتها من مشكلة بين زوجين يتم التستر عليها إلى مشكلة بين عائلتين يصعب حلّها. زارت الخالة بيت زوج أختها، محاولة بذلك حل المشكلة، ومساعدتهم على فهمها من زاوية أخرى. إلا أنها استقبلت بشتى أنواع الشتائم، والصراخ، ودلو كبير من الماء فوق رأسها. جعلها ذلك تخرج المنزل عازمة على أن تقطع كل صلة تربطهم بتلك العائلة. اتجهت بعد ذلك لنزلها تفكّر في حل ينقذهم من الخزي والفضيحة. وفكرت بأن الحل الوحيد للمشكلة أن تنفصل اختها عن زوجها. تركت ابناءها في الدور العلوي يقومون بحل واجباتهم كما اعتادوا عصرًا، وزوجها يأخذ غفوته المعتادة بعد العمل، بينما تسللت هي من باب المطبخ الخلفي لتذهب لمنزل اختها في الجهة المقابلة لمنزلها، وقدّرت بأن الزيارة لن تأخذ منها سوى عشر دقائق. لم تكن اختها تغلق الباب، دخلت مباشرة إلى فناء المنزل الخارجي، واتجهت للداخل. وجدت اختها في غرفة المعيشة، تنظر للسقف بهدوء. جلست بجانبها وحاولت بشتى الطرق أن تجعلها تطلب الخلع من زوجها، إلا أن اختها لم تكن بحال تسمح لها باتخاذ قرار، فلم تكن ترد عليها، بل تهز رأسها إيجابًا على كل شيء، هادئة على عكس كل ما يدور حولها. وبعد أن يأست الخالة من كل أساليب الإقناع قالت:”تراه يبي يذبحك، وإن كانه مهوب اليوم تراه باكر، والرشاش اللي حاطه بالمخزن تراه بيذبحك فيه. إن ما خلعتيه وجيتي للبيت معززة مكرمة زي ما كنتي فيه، ولا تراك تتموتين.” تبادلتا النظرات للمرة الأولى منذ جلوسهما، وأعقب ذلك الحوار هدوء، اقتنعت به الخالة أنه الحل الصحيح، وأن أختها أخيرًا ستعود للبيت خوفًا على نفسها. وقفت الخالة، ارتدت قفازاتها، رفعت العباءة فوق رأسها، وغطت وجهها، ودعّت اختها وخرجت على أمل أن تتبعها أختها مساءً.
إلا أن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا، فأختها لم تعد للبيت أبدًا، وهي لم تعترف بما حدث فعلًا.
في طريق خروجها من المنزل، التقت بزوج اختها، ألقى عليها السلام ومرت من أمامه بدون أن ترد عليه. قطع الزوج الصالة متجهًا لغرفة المعيشة حيث تجلس زوجته، وبدلًا من أن تخرج الخالة، اختبأت خلف باب الصالة المؤدي للفناء الخارجي. اشتد الشجار بين الزوج والزوجة، تعالت الأصوات، وخرجت الزوجة مسرعة لجلب السلاح، عادت للغرفة، وقالت:”خذه، اذبحني زي ما تقول، سووها ياالله ان كانك رجال!” مد زوجها يده ليأخذ السلاح، رفضت تسليمه له، وبين شد وجذب، أطلق الزوج على زوجته في صدرها، وسقطت على الأرض في بركة من الدماء. وقف زوجها مصدومًا، يرتجف، ينادي باسمها. دخلت الخالة الغرفة، صرخت بأقوى ما لديها، أخذت السلاح من الزوج، وأطلقت عليه.