تبكي، تضرب بقدميها الأرض، يسافر شعرها في كل الاتجاهات، وأنفها أشبه بالفراولة. ولأن البكاء معدي كالضحك تمامًا في تلك العائلة، تبكي الأم لبكاء ابنتها، وتخبرها:”خلاص يا ماما باقي شوي على النجاح ويشتري لك بابا سيكل.” ولأن ابنتها لم تتعود الرفض أبدًا، يستمر البكاء والنواح والعويل. نفذت الحيل من كلا الوالدين، فالمثلجات تملأ الثلاجة، والشوكلاته مرمية على الأرض، والعصير يتقاسمه الجميع على الغداء بدون أي رغبة منها على شرب البعض منه. في المدرسة، تسألها زميلتها:”ما صورتي سيكلك، كل يوم تقولين بصوره ولا صورتيه.” تجيبها:”ايه نسيت.” ويأتيها الرد سريعًا قبل أن تفكر بمخرج آخر، تقول زميلتها:”شكلك أصلًا كذابة ما عندك سيكل.” تتجمع الدموع في عينيها وتحبذ الصمت.
في الأسبوع الميت كما يقال، بانتهاء الدروس وبدء الغياب، يحضر والدها لاصطحابها من المدرسة، يضع في خلفية السيارة دراجة وردية فاقعة، تتدلى من مقودها شرائط لامعة، وتتصل بالمقود سلة صغيرة بيضاء. وبهذا الفعل، يتمنى والدها أن تتوقف عن البكاء، لكنها برؤيتها لها بكت مجددًا. احتضنت والدها، وانمسح مخاط انفها بثوبه، يحاول تهدئتها إلا أنها تبكي بشدة، تمسح عينيها بأطراف أكمامها، وتستمر بالشهيق. في اللحظة التي توقفوا بها أمام الإشارة، قال والدها رافعًا اصبعه في وجهها”:تراني ما شريتها لك إلا عشان تشدين حيلك بالاختبارات، لعب بالجوال والسيكل ما نبي، أبي درجات كاملة، وترا ما فيه هدية نجاح، خلاص السيكل هو هدية نجاحك.” تبتسم، تهز رأسها موافقة، وتبتلع دموعها الفائضة، وهو يعلم يقينًا بأنها ستطلب هدية نجاح أخرى.
تبكي والدتها فور رؤيتها للدراجة، تقول:”الله لا يخلينا من أبوك.” تبكي معها ابنتها مجددًا، تمسحان الدموع وتحاول الأم مساعدة ابنتها على ركوبها. تقطع الابنة ساحة المنزل ذهابًا وإيابًا، تمتنع عن الغداء، وتقضي نهارها كله في الخارج. تعبر الأم عن قلقها بإدمان ابنتها للدراجة، إلا أن الأب يقول بإن هذا الإدمان لحظي، وسرعان ما ستتركها لتجمع الغبار والأتربة في المخزن. في المساء، تجلس الابنة بجانب أبيها، تقول له بصوت منخفض يمتلئ بالرجاء:”ممكن يا بابا تشيل الكفرات الصغيرة؟” يعارض والدها في البداية، كون المسار التعليمي لهذا الطلب سيأخذ وقتًا طويلًا، إلى جانب الخطر الذي يهدد البدء بالتدريب، فالإصابات أكيدة، والجروح في التدريب هي الأساس. تستمر الفتاة بالزن، تتبع والدها لكل مكان، تلتصق به كما يلتصق الحلزون بالجدران الزجاجية للأحواض. ولم يستمر الزن لأكثر من يوم حتى نالت الفتاة مرادها، وابتدأ التدريب في فناء المنزل.
لم يكن اليوم الأول في التدريب سهلًا، استحمت الفتاة بالغبار، وغرق والدها في العرق. تقود الدراجة خطوتين إلى الأمام وتسقط، وإن نجحت في القيادة لأكثر من خطوتين لم تستطع التوقف، تصتدم بالجدار، لا يستطيع أي شيء إيقافها، ولا حتى صراخ والدها، الذي يصر على ابنته أن تتوقف عندما يقول لها توقفي، بدون أن يضع نفسه في مكانها، وأنها للتو قد بدأت بالتعلم. وبعد عصرية مليئة بالألم والصراخ والبكاء، يقول والدها بصوت ثقيل محاولًا بذلك أن يكون حازمًا:”خلاص يا بابا، راح أرجع الكفرات الصغيرة لمكانها، ونكمل التدريب بالإجازة الجاية.” تبكي ابنته متشبثة بثوبه، تتحدث أثناء بكاءها، ولا يستطيع فهم أي كلمة تتلفظ بها، يحاول تهدئتها إلا أن الوضع زاد سوءًا، فالبكاء تحول إلى صراخ، وسرعان ما تحول الصراخ إلى رمي وتكسير وضرب، إلا أنه انتهى بموافقة الأب على إكمال التدريب في الغد.
قررا أن يبدأ التدريب الثاني في الحديقة القريبة للمنزل، وضع والدها الدراجة في مؤخرة السيارة، انطلقا إلى الحديقة بحماس بادي على وجوههما، أو على وجه الابنة على الأقل. لم تكن البداية مبشرة بالخير، فمشاكل الأمس ما زالت مستمرة، تمشي فلا تستطيع التوقف، وإن توقفت فلا تستطيع المشي مجددًا. تلقي الابنة نظرة سريعة على وجه والدها بينما تمثل تركيزها على القيادة، تستطيع بوضوح رؤية اليأس على وجهه، فابتسامته اختفت، والعرق يصب من جبينه، وصبره على أخطاءها يقل أكثر فأكثر، يصرخ عند سقوطها، ويضرب فخذه عند توقفها. تقول له:”بابا، أبغى أجرب أمشي في الجهة الثانية هناك، بسبقك الحقني.” يوافق والدها ويخبرها بأنه سيحضر الماء من السيارة ريثما تسبقه هي للجهة المقابلة من الحديقة. وبينما هي تنتظره بجانب كرسي اسمنتي متسخ ببقايا مشروبات، تلتقي بولد الجيران، ولد للتو بان الخط الأخضر فوق شفته العلوية، رائحته أسوء من المشروبات المسكوبة على الكرسي الأسمنتي، وشعره أشعث، وللشمس دور كبير في لون بشرته التي تعلن استسلامها بالبثور والجفاف. يقول:”يا قلبس وش هالسيكل الزهري! اتحداك تسبقيني، شكله اصلًا خربوطي موب سيكل صدقي.” تغضب، تضرب بقدمها اليسرى الأرض، تقول:”إلا صدقي! هذا سيكلي الجديد، بابا اشتراه، أصلًا أنت بطيء حتى لو مشيت على رجليني أقدر أسبقك!” يرد بضحكة مجلجلة:”ياالله وقفي جنبي، بعد لين ثلاثة ونبدا السباق، اللي يوصل للعامود قدام هو الفايز”
تضع قدمها اليمنى في الأمام، واليسرى في الخلف، تتخذ وضعية سباق التتابع التي تراها في المقاطع، يديها على الأرض، ونظرها مصوّب على العامود. يبدأ العد، بطيئًا، وعند وصوله للثالثة يقول:” واحد، اثنين، ثلاجة.” يكررها مرتين ويضحك بقوة، توجه نظراتها نحوه، يقول:”خلاص والله آسف.” يعد إلى الثلاثة، يبدأ السباق، تركض بكل ما أوتيت من قوة، تنسى كل ما حولها، لا يوجد أمامها سوى العامود الحديدي، تشعر بقلبها سينفجر في أي لحظة، وفي خضم هذا كله، تحيد عن مسارها، تفكر في لحظة الفوز، لا تسمع ما حولها، وانقطع تفكيرها بسماعها:”وخري عن طريقي!” وعندما انتبهت متأخرة للتحذير، غيرت مسارها سريعًا، إلا أن صاحب الدراجة قد غير مساره ليبتعد عنها عندما لم تجبه للمرة الأولى، وهي الآن أمامه، ولا يستطيع اجتنابها. يصرخ بأقوى صوته :”وخري!!!” إلا أن كل شيء كان متأخرًا، اصتطم بها، سقطت على وجهها، ومشى فوقها لمسافة بعيدة حتى استطاع التوقف بالكامل. يعود لها راكضًا، يجدها لم تنهض بعد، علامات عجلة الدراجة الخاصة به على ساقها وطرف فستانها، أمسك بيدها وساعدها على النهوض، لم تسلم يدها من الآثار، فساعدها كاملًا قد طبعت عليه آثار العجلة. يحاول نفض الغبار عن ملابسها، يحاول أن يحادثها لكنها لا تتكلم، ولا حتى تبكي. يرى والدها قادمًا، يتركها ويركض مسرعًا لدراجته، يمر بجانب والدها ويقول له:” ترا بنتك طاحت من على السيكل.” ويسرع بدراجته مبتعدًا عن المكان.
يحمل الأب ابنته عائدًا للسيارة، يحاول أن يفهم ما حدث لكنها لا تتحدث، لا تبكي، ولا تتألم. يعودون للمنزل، تثور والدتها لمرأى ابنتها، تذرف بعض الدموع، ويتملكها الغضب لدى سماع اسم ولد الجيران، تمسح دموعها الممزوجة بالغضب وتذهب بابنتها للمطبخ لتعقم جروحها بالمعقم من خزانة الأدوية الموجودة هناك.
بعد أربعة أيام، وبعد انتهاء الأسبوع الميت، في صباح أول يوم من الاختبارات، تخرج الابنة للفناء، تنتظر أن يتبعها والدها ليوصلها للمدرسة، تلاحظ دراجتها بجانب الجدار، تشرع في البكاء، شهيق، وعيون حمراء يملأها الرعب. يحضنها والدها ويحاول أن يستشفي الكلمات منها، ترفع اصبعها السبابة، توجهه نحو الدراجة، تقول بصوت متقطع:” خ ذ ه ا” يقول والدها:”آخذها وين أحطها؟” تصرخ، وتبكي بصوت أعلى. يذهب والدها مسرعًا للدراجة يسحبها من أمامها، تبتعد هي عن المشهد، تركض مبتعدة عن المنظر، ويأخذ والدها الدراجة للمستودع. يعود والدها من المستودع ليجدها قد هدأت، يعطيها كأسًا من الماء، ويتوجهون للمدرسة.