يتبدّل جلده كما يفعل جلد الأفعى، أحمر فبرونزي إلى الأسمر. يختلّف اللون على حسب الرحلة، فالرحلة القصيرة على ظهر السفينة لا تغيّر فيه شيئًا، يختبئ قدر استطاعته في الداخل، ينوّع ويتفنن في صياغة الأعذار حتى اليوم الأخير من الرحلة، ونجح كثيرًا بالهرب من سطح السفينة الحارق حتى تتوقف السفينة في المرفأ. ولكن في رحلات عديدة أخرى، لم تنفع معه الأعذار كلها، واضطر لمختلف الأسباب أن يقف على سطح السفينة وتحت أشعة الشمس لساعات مديدة، يتغير فيها لون بشرته، وتختلف لغته، وتتبدل أحلامه. ينظر مطولًا في الأفق الواسع أمامه، تتساوى الخطوط، تندمج ببعضها، يفقد القدرة على التمييز بين الحدود، تندمج معًا، تصبح السماء والأمواج واحدًا، الأزرق هو الأزرق الذي يعرفه دائمًا، هي الدرجة ذاتها التي كبر وهو يعرف الأزرق فيها، لون واحد فقط، حياة واحدة.
في الرحلات الطويلة، تُعرف غرفته سريعًا، هي الغرفة الأقرب لسلم الصعود للسطح، وهي الغرفة التي يستطيع أي أحد من الطاقم أن يصل إليها. وأما في الرحلات القصيرة، فلا يهم أي شيء، سوى أن يكون له غرفة خاصة فيه وحده، حتى ولو كانت بجانب قلب السفينة الضخم والغارق في البخار. تشتهر غرفته بأنها الغرفة السحرية الوحيدة، في كل رحلة، ومع كل فرد جديد في الطاقم، تعاد حكاية كونه ساحرًا. يشترط لرؤية سحره أن يحضر الطاقم لغرفته كمجموعات من ثلاثة، تقل المجموعات الثلاثية إلى ثنائية، فتنتهي إلى فردية، وبالأخص فردية نسائية. تتعدد الزيارات، وتتنوع أسبابها حتى تنتهي الرحلة. ولطواقم السفن علاقاتهم الخاصة وأحكامها التي تمتد مدى الحياة، ولأن الرحلات ليست مضمونة بشكل مؤكد في كل مرة بأنها ستنتهي بسلام، بدون أن يفقد أي شخص عقله أو أن تغرق بهم السفينة بسبب عاصفة مفاجئة، أو حتى أن تتم التضحية بفرد من الطاقم من فوق السطح مهددًا بسكين على لوح خشبي، أو أن تصتدم السفينة بجبل جليدي مثلًا، يتعاهد كل من على متن السفينة بالتزام الصمت عن كل ما يحدث هناك مدى الحياة. العلاقات التي تبدأ في السفينة تستمر إلى الأبد، سواء كان البحّار حيًا أم ميتًا، فأسراره في الحفظ والصون حتى النهاية. العادات الغريبة، العلاقات، أسرار الوصفات، والأحلام والأمنيات التي تؤدي بحياة صاحبها، لا يطلع على كل ذلك إلا الأمواج التي تعترض باصدامها المتكرر والعنيف بجدران السفينة.
بعد أسابيع طويلة في البحر، مليئة بالملح والشمس والخوف والرغبة، ترسو السفينة أخيرًا. لا يتعانقون، بل يتدافعون للنزول، يرتدون الملابس ذاتها التي حضروا فيها باليوم الأول، ويمسكون بقوة حقائبهم التي لا تحتوي على أي هدايا أو تذكارات، لا يتبادلون أي عبارات وداعية، كمن أطلق سراحهم من السجن، يركضون مبتعدين عن بعضهم البعض، راغبين في أن تتحقق حريتهم المؤقتة بالنسيان، يهربون من النسخ التي صنعها البحر منهم، ويلجؤون إلى اليابسة لتطهرهم منها.
بلا موعد محدد، يرجع للمنزل، يرجع كأب وليس كبحار أو ساحر، عاد من وظيفته الأولى، ليبدأ وظيفته الثانية. يستقبله أطفاله الأربعة بالأحضان والابتسامات ومحاولات التسلق التي تبدأ من ساقه. يسألونه عن الهدايا، من أصغرهم سنًا حتى زوجته، يتقلّب وجهه، لا يعرف ماذا يقول، إلا أنه يجلس على الأرض ويأمرهم بأن يحضروا حقيبته التي تركها عند الباب. يسحبونها بصعوبة، يدفعونها ويرفسونها، حتى وصلت إلى ركبته. يفتحها ويرفع الملابس، يسحب من أسفل الشنطة كيس أزرق سادة، يسألهم أن يتوقعوا ما فيها، يكثر النفي وتقل الإيجابات بالتدريج. يستسلمون ويضحك على سرعة استسلامهم، يخرج منها علبتين زجاجيتين مليئتين بالماء ونموذج مصغر للسفينة التي يعمل بها. تختفي الابسامات سريعًا، فهي ذاتها الهدية التي أحضرها في المرة السابقة، والمرة التي تسبقها. يستغرب من نسيانه عندما يصارحه أطفاله بالحقيقة، يخبرهم بأن السمك الذي أكله في هذه الرحلة يحتوي على زيت يزيد من النسيان، وأن الأمر ليس بيده هذه المرة، كونه لا يستطيع أن يتحكم فيما يأكله، لكنه يعدهم بهدية أفضل من هذه بعد الرحلة القادمة. تغمز الزوجة، تنتظر هديتها، يضحك ويخبرها بأن زيت السمك بالرغم من قوته، فإنه لم يمنعه من أن يحضر لزوجته هدية. يعود لفتح الحقيبة، يفتح السحّاب الخلفي، يخرج منه كيسًا أزرقًا آخرًا، يكرر طلبه بأن يبدأ الجميع بالتخمين مجددًا لمعرفة الهدية. يستسلمون سريعًا كما فعلوا سابقًا مع التخمين الخاص بهداياهم. يعطي زوجته شيئًا اسطوانيًا ملفوفًا بورق شبيه بورق تجفيف زيت القلي. تمزق الزوجة الورق، لتجد أسطوانة قماشية ملفوفة بحبل، تفك الحبل، وتنبسط المريلة سريعًا منها على الأرض. تبتسم بدون أن تظهر أسنانها، تشكر زوجها وتذهب للمطبخ.
قبل النوم، وبعد أن غير زوجها ملابسه، تعطيه زوجته كأسًا من العصير، وهو العصير الذي يشربه بعد كل مرة يعود بها إلى المنزل بعد انتهاء رحلته. اعتاد على شربه بعد أن أخبرته زوجته أنها تعبت في الحصول على وصفته، وأنه هو العلاج الوحيد لكل ما يقاسيه في الرحلة، أو من المتوقع أنه قد أصيب به بدون معرفة منه، كالدودة الشريطية، وحروق البشرة، والاكتئاب، والروماتزم، والسكر، والضغط، وتساقط الشعر. يشربه دفعة واحدة، بابتسامة امتنان وحب، بالرغم من طعمه الغريب، إلا أنه يشعر دائمًا بأنه عادًا شابًا في الصباح.
يستلقي على سريره، يغط في النوم سريعًا، بلا شخير أو حركة، وكأنه غير موجود بالغرفة. تفرقع زوجته أصابعها أمام وجهه، تناديه فلا يجيب، تنتظر لربع ساعة، تقترب لأذنه وتقول:” هل المريلة كانت من السوق؟” فيرد نافيًا. تسأله مجددًا:”هل كانت المريلة لأحدى العاملات على السفينة؟” يجيب بنعم بصوت خافت. تأخذ الزوجة نفسًا عميقًا وتقول:” هل سرقتها؟” يرد قائلًا:”لا، أعطتني إياها كتذكار.” تتجمد الزوجة، وتشعر بالغثيان، تقول أخيرًا:”هل كانت هدايا الأولاد من نفس المحل القريب من المنزل؟.” يرد بالإيجاب.