كما تفعل والدتي لحذف اللقطات الخادشة للحياء من أشرطة الفيديو، اختفت تمامًا المرحلة المتوسطة من رأسي. استبدل شريط المرحلة المتوسطة في رأسي بلاصق شفاف يربط المرحلة الابتدائية بالثانوية مباشرة، لا أتذكر الوجوه، ولا الأسماء، ولا الأحداث، لا أتذكر نفسي ولا أعرفني إلا بما يخبرني به الجميع. لذلك لا أعلم إن كان حظي – إن جاز لي التعبير عنه بالحظ – مرافقًا لي منذ المتوسطة أم لا. يقال إن الذكريات المؤلمة والصدمات القوية تختبئ تحت أنقاض الذكريات، فلا يستطيع الشخص الوصول إليها إلا بعد معاناة، وألوف مؤلفة من الأموال المدفوعة لجلسات العلاج النفسية. وقد تكون تلك هي حالي، أدفن ذكرياتي كوسيلة دفاع، إلا أنني لم أسمع عن أي شيء من ذلك القبيل حدث لي، ولا أثر لأي جراح وآثار جسدية توحي بمعاناة سابقة، وبذلك تظل المرحلة المتوسطة سرًا كبيرًا لا أستطيع الوصول إليه.
ترتبط أبرز ذكرياتي وأشدها وضوحًا خلال المرحلة الثانوية بمواقف يصعب على البعض تصديقها، وتتقاطع مع الشعور بالذنب، إلا أنني لم أشعر بالذنب إطلاقًا، فلست أنشد الكمال، ولا أتمنى أن أكون قدوة، وكل شيء يحصل لي أعتبره رسالة ربانية، قد أكون مختارًا وقد لا أكون كذلك، لكنني في كلتا الحالتين أعرف أنني مسيّر، ولا أستطيع الاعتراض على المشيئة، وما دمت لم أقتل أحدًا – حتى هذه اللحظة – فلا أرى أن شعوري بالذنب واجب. وإن كان ضميري أحيانًا يستنجد بيأس لأعطي بعض المواقف دقائق من التأمل ولإعادة الاختيار، فلا أعيره اهتمامًا، فكما كنت أقول، أنا لا أتحكم بما يحدث لي، وإنما أُزج في الموقف وأنساب معه.
في الصف الأول ثانوي، خلال اختبار الكيمياء في منتصف الفصل الدراسي، وهو أصعب اختبار، أخذت الورقة، أشاهدها بيضاء بالكامل، تتضح تدريجيًا، أحرف عشوائية تطفو، تظهر متشابكة، لا أستطيع قراءة الحروف، ترقص، تتماسك بالأيدي، تركض على الورقة. أقضي النصف ساعة الأولى من الاختبار محاولًا اللحاق بها، إمساكها، ترتيبها، وقراءتها. وفي اللحظة التي وضعت بها يدي على كل الأسئلة، فقدت الأجوبة. لا أتذكر شيئًا، كأنني لم أحضر أي حصة دراسية، لا أتذكر أي قانون، ولا أي مصطلح. يلاحظني المراقب، أشعر أنه يستطيع الرؤية من خلالي، أتوتر أكثر، أحاول إمساك الكلمات من الهروب مجددًا. يقترب المراقب، يضع يده على كتفي، أشعر بلمسته التي تغطي كتفي المتعرّق، يطمئن علي، وأشعر أنني مفضوح. وقبل أن أجيب على أسئلته التي يلفظها علي بعد أن يعلكها مطولًا، تقطع حديثنا جلبة من الجهة اليسرى من الفصل، أحد الطلبة فقد وعيه، يتجه له المراقب مسرعًا. تتجه نحوه كل الأنظار، ينهض الطلبة ويتحلّقون حوله. أبقى في مكاني، لا أحد ينتبه لي، أخرج الكتاب من الحقيبة، وأنقل الإجابات.
يعتبر والدي التأخير الخطيئة الثامنة من الخطايا السبع، ومنذ أن ورثت السيارة بعد أخي الأكبر الذي ورثها من والدي الذي ورثها بدوره من جدي، والتأخير والعقاب والجدال أسلوب حياة يومي. أتأخر خمس دقائق بسبب الازدحام فأغدو بثواني معدودة الابن العاق، المهمل، المنافق، الدرج، الحذاء، ومختلف الجمادات التي قد تخطر على والدي وقتها. وكطريقة من المدرسة لتعزيز العلاقة بين الابن ووالده، رسالة قصيرة تصل للأب في كل صباح في حالة تأخر الابن عن المدرسة. في اللحظة التي دخلت فيها المدرسة، اسمع الجرس المعلن عن بداية الطابور الصباحي. أركض، وأحاول التملص من المسؤول الذي يستخّف بالطلاب أولًا، ويسجل أسماؤهم كمتأخرين ثانيًا. أتجه للجهة الخلفية من المدرسة، فهناك ممر يؤدي إلى الساحة التي يقام فيها الطابور، ويقع تمامًا أمام الجهة المخصصة لفصلي. بقلب منقبض ورئة فزعة، أصل للطابور، وللجهة التي يفترض بي الوقوف بها. وبمجرد وقوفي هناك، رآني المرشد الطلابي، ابتسم، وباصبعه السبابة أشار لي أن أقف في طابور المتأخرين، وهو الذي يتم تسجيل فيه أسماء الطلاب المتأخرين، ويخرج فيه المدير مشاكله النفسية للعلن. أقف في المنتصف، أمامي طلاب الأول ثانوي الذين يفوقونني طولًا، ومن خلفي طلاب الصف الثاني ثانوي الذين لا يقل طولهم عن سابقيهم. ينقطع صوت الإذاعة، لا أعلم إن كان طول قامة من حولي يمنع وصول الصوت أيضًا أو أنني أعاني خللًا ما. تصلني ضحكات، تنتشر كالعدوى، الكل يضحك، يثير الموضوع فضول المدرسين، يتجهون للمسرح الذي تقام فوقه الإذاعة، المسرح الذي يحاول الصمود كل يوم حرفيًا ومجازيًا. يضحك أحد الطلبة الذين يقدمون الإذاعة، أشفق عليه، يضحك ليغطي توتره، يسحبه المدير، يأمره بالوقوف في طابور المتأخرين. لكن قبل أن يسحبه المدير، وقبل أن ينتبه الجميع لي، كنت في طريقي للفصل. يحضر المدير مسطرته من المكتب، يضرب الطلاب، ويدمي أيديهم.
كانت المرحلة الثانوية سيلًا من المصادفات، يتم تكريمي وإعطائي مبلغًا من المال بالرغم من كوني العاشر على الفصل، أنفق المال بشراء عشاء فاخر. يتضح في اليوم الذي يليه أنهم أخطؤوا بالاسم، وبما أنني أنفقت ما أعطوني إياه فلا يطالبونني بإعادته، وإنما يطلبون مني أن يكون ذلك الخطأ حافزًا لي لأقدم أفضل ما عندي. مرات عديدة يخطئ بها الأستاذ بتصحيح ورقة اختباري ويعطيني العلامة الكاملة، ولا أخبره بالطبع، فالأمر ليس بيدي كما كنت أقول. ومرات عديدة أخرى أكثر أنجو بها من عقوبات كثيرة، التأخر والغش والهروب. ولم تنقطع هذه المصادفات حتى هذه اللحظة، أنجو من التأخير على المحاضرة بنسيان الدكتور للتحضير، أنجو من التسمم من أكل المقصف بأكلي لفطور والدتي صباحًا، أنسى الاختبار فيعتذر الدكتور عن الحضور، أدخل مجموعات الطالبات الدراسية وآخذ الملخصات بدون أن يتم طردي.
أحضّر آخر تحضير لمناقشة مشروع التخرج، لم أنم لدقيقة واحدة، أخرج سريعًا من المنزل، أركب السيارة بدون أن أرتدي ملابسي بعد، خوفًا من أن أقترف الخطيئة الثامنة، أرتدي ملابسي أثناء الوقوف بالإشارة. أمسك الأوراق وأقرأها مرارًا، أحاول حفظ الأسماء بنطقها الأصلي باللغة الإنجليزية، محاولًا بذلك إثبات جدارتي. أصل لمواقف الجامعة الخلفية، لا يوجد أحد، أستغرب من ذلك لكن توجد أشياء أهم من امتلاء المواقف. أصوات طرق على النافذة، أرفع رأسي عن الأوراق، وألتفت، وجه مألوف يطلب مني الترجل من السيارة. قبل أن أسأل أو حتى أن ألتقط أنفاسي يخبرني بأنه رسب في مشروع التخرج؛ والسبب يعود لي لأنني أخبرت المشرف أن المجموعة الخاصة بي لم تبذل جهدًا لإتمام المشروع. يمسك بياقة قميصي، يدفع بي للسيارة، أتفادى لكمته الأولى لكنني أفشل بالتصدي للكمة الثانية. أنا ضعيف، وأقر بأنني ضعيف، لم يزد وزني أبدًا عن خمسين كيلو غرامًا، فكيف به أن يسقط بعد ضربة واحد على الأرض فلا أعلم لذلك سببًا. أحاول استنطاقه لكنه فاقد للوعي، أقرصه، أضربه، وأصرخ في وجه، لكنه لا يجيب. تصلني رسالة بتأجيل مناقاشات مشاريع التخرج، فأخرج من المواقف كما دخلت منها، بدون أن يراني أحد، وبدون ندم.
أعود للمنزل، أختنق، أتعرق، كما لو كان منزلنا تحت الماء، لا أشعر بالندم، وإنما شعور غريب يصعب وصفه، لا أجد الكلمات للتعبير. أحاول اصطياد الهواء، أشعر بأنني أغرق، الرطوبة ترتفع من سيقاني إلى أعلى جسمي ببطء. إحساس مألوف، النجاة من الغرق. هل غرقت؟ هل نجوت من الغرق؟
أسقط أرضًا، صداع رهيب، تختلط علي الأفكار والذكريات، أنا وصبي آخر، نفترق، أنا في جهة وهو في الجهة المقابلة، مسبح عملاق، وشمس حارقة. أيدي كثيرة، شعر طويل، وجسد يطفو. صراخ وكلمات غامضة، ورطوبة تغطي جسدي كله.
*حاشية
الكلمات المستخدمة لكتابة هذا النص ( مرحلة، مذنب، جرس)