هجوم من الصحون والملاعق

أكتب هذه الكلمات والأواني في حوض الغسيل ترشقني بنظرات الغضب، أتسلل من المطبخ إلى غرفة المعيشة على أطراف أصابعي؛ خوفًا من أن أزعجها زيادة على الحال التي هي فيه. أمضت تلك الأواني ليلة كاملة في حوض الغسيل، ليس كسلًا مني أو رغبة منها، وإنما بسبب تكاثر أعمال المنزل التي لا تنتهي، وصدقت والدتي حينما قالت:”شغل البيت ما يخلص”. أجد صعوبة في التوفيق بين غسل الأواني والقيام ببقية الأعمال المنزلية، والخاسرة دومًا تلك الأطباق البيضاء والقدور الفضية. يزداد امتناني كل يوم لفانتي، الانسانة التي غسلت الأواني التي استخدمها يوميًا بدون كلل أو اعتراض، وهي التي كانت السبب الأول بعد الله لإتقاني العديد من مهارات الطبخ والخبز؛ لأنني لا ألقي بالًا لأي ملعقة استخدمها، أطبخ وأحوس وأعجن، وأملأ حوض الغسيل بالأواني بدم بارد، وأخرج بعدها من المطبخ بحسرة وحيدة، احتراق البيتزا التي وضعتها بالفرن.

اختيار غسيل الأواني كافتتاحية للتدوينة بعد غياب اختيار غريب بلا شك، وقبل أن ابدأ الحديث عن أي شيء آخر، اعتقد أن غسل الأواني هو الموضوع الأكثر أهمية عند الحديث عن الحياة بعد الزواج بالنسبة لي، لأنني لم أغسل طبقًا في حياتي سوى عند خوالي، ويشاركنني خالاتي في الغسيل. وهو الموضوع الذي أضحك والدتي حتى انقطعت انفاسها على الهاتف حينما قلت لها:”يمه المواعين ما تخلص” قالت:”أحسن خلك” بدلًا من أن تؤازرني وتكبّر رأسي وتقلب أفكاري لأطلب من محمد غسالة -مواعين- تضحك علي وتطقطق كذلك. ولم يكن كيّ الثياب صعبًا كما تخيلت، وإنما أسهل بكثير من غسل الأطباق التي تغسلني في كل مرة أحاول غسلها. وأما عن بقية أعمال المنزل، فهي روتينية أقوم بها كما كنت أفعل في منزلنا، أو منزل أهلي كما يقول محمد، فمنزلنا مع إضافة الضمير تعني منزلي أنا وهو، وليس منزل والدي، وهو أمر أحاول الاعتياد عليه كما أحاول الاعتياد على اختلاف مسميات الأشياء بين منطقة نجد والحجاز، ولاحظت أننا نحن سكان نجد – أو كساكنة سابقة في نجد- نمتلك اسمًا لكل شيء، ولكل حركة وشعور، وبينما الحجاز في الجهة المقابلة تحب الاختصار، وقد يكون محمد الوحيد الذي يطلق اسمًا واحدًا لكل شيء، لكن هذا ما لاحظته مؤخرًا.

بانتقالي من نجد إلى الجنوب، من الزلفي إلى الباحة، أجدني هادئة أكثر، تحيطني الجبال بالخضرة والظل، تعطيني السكينة، وتسبغ علي بالهواء النقي الذي لم يختلف كثيرًا عن هواء الزلفي في الحقيقة، لكثرة المزارع التي تحيط بمنزلنا -أو منزل والدي-، لكن قد يكون الاختلاف الوحيد هنا أن الهواء بارد دائمًا ورطب. تجعلني رؤية الجبال والمرور من بينها أصغر، أشعر بأنني ضئيلة، ولا أملك من أمري شيئًا، وهو إحساس يجعلني أمسك نفسي عن الحديث، ويرغمني على أن احترم المنظر، وأن أغرق في أفكاري أكثر، ولكن في منتصف عملية التأمل تلك، يقول محمد:”وش فيك ساكتة؟” ويصعب علي تبرير شعور الضآلة ذاك، فيبدو على وجهي أنني حزينة وضائعة، وأجدني أحلف مئات المرات لمحمد أنني لست حزينة، :”والله اني مستانسة” ولكن لا تبدو تلك الوناسة ظاهرة على وجهي، وهذا ما أعانيه أغلب الأوقات، وفي كل مكان، وليست حالة جديدة أمر بها بعد الزواج، ولكنها قديمة كل القدم، وازدادت تفاقمًا بملاحظة محمد لها.

كثيرة هي إيجابيات السكن في الباحة، فها أنا ذا أجلس في غرفة بدون أن أشغّل التكييف، أفتح النافذة كل يوم وفي كل دقيقة على جو مختلف، يوم مشمس، فممطر، ويوم كامل يملأه الضباب. وأما بالحديث عن الضباب، فتجربتي الأولى للمشي فيه والإحساس به لهي فاشلة تمامًا، ولا تستحق الانتظار لتجربتها. طوال حياتي، ومنذ صغري، كنت أظن أن الضباب رطب، ويمكنني الإحساس به على وجهي وجلدي، وقد يكون برائحة مختلفة، وأستطيع أن أمرر يدي بداخله فيتفرق بفعل أصابعي. إلا أنه على العكس من ذلك تمامًا، لا يتكثف بسرعة على الأسطح، فلا أرى قطرات من الماء على يدي أو على الزجاج، لا يمكنني الشعور به بأي حاسة! ولا يتفرق بين أصابعي، وفي الأساس، عند الوقوف في داخله، لا تستطيع ملاحظة أنك في داخله فعلًا. ومع ذلك، أحب رؤيته يلف الجبال، وينزل تدريجيًا ليتمشى بين الشوارع والسيارات، يعطي المدينة سحرًا جذابًا، كأنك في موقع تصوير فيلم ما، إلا أن هذا الواقع، وأنت في فيلمك الخاص. ومن مميزات الباحة لمهووسة نباتات مثلي، أن النباتات لا تحترق بفعل الحر، ولا تجف تربتها باستمرار، وتكاد تكون عناياتي بنباتاتي الآن أن أقول صباح الخير ومساء الخير لها فقط. ومع حلطمتي الطويلة عن الأواني وغسلها وأعمال المنزل التي لا تنتهي، فلها على الأقل إيجابية، ومنها أنني انتهيت من الاستماع لكتاب طوله ست ساعات في غضون ثلاثة أيام فقط! كنت في أولى سنواتي الجامعية مدمنة للكتب الصوتية، حتى انتهى اشتراكي بالتطبيق وابتدأ غزو البودكاست. فغدوت استمع للبودكاست صباحًا ومساءً، لا أهتم إلا بإنهاء الحلقة الجديدة قبل أن تنزل حلقة أخرى، حتى انخفض اهتمامي لقائمة طويلة من عناوين حلقات بالبودكاست في قائمة المشاهدة لاحقًا. وبعد إنجازي هذا، قررت العودة للكتب الصوتية. وبالمناسبة، استمعت لكتاب رضوى عاشور خديجة وسوسن على تطبيق اقرأ لي، تطبيق يحتاج لتحسنيات كثيرة، لكنه يؤدي الغرض، وأما عن الكتاب فهو بسيط سلس، ولكن ممتع أشد الامتاع.

أتوقف هنا، لا توجد صحون لنأكل عليها الغداء إن لم أقم بغسل الأطباق المتزاحمة في حوض الغسيل. لدي الكثير للكتابة عنه، والكثير لروايته، أعود بهذه التدوينة للكتابة كل اثنين ان شاء الله، وأتمنى بأن تكونوا على استعداد.

حتى الاثنين القادم، وحتى أجد النمط اليومي المناسب لي وللأواني الخاصة بنا، إلى اللقاء يا أصدقاء.

سارة

الباحة

غرفة المعيشة

*حاشية

ردًا على التدوينة السابقة، وصلني فستان الزفاف من مشغل الخياطة مثاليًا، وكان كما تمنيت وحلمت، وكان يوم الزفاف رائعًا لا ينسى، ولكن هذا موضوع آخر، لتدوينة أخرى.

8 أفكار عن “هجوم من الصحون والملاعق”

  1. مساء الخير استاذتي رفيقة الكتب سارة:
    أعجبني مقالك و الصراع الدائر بين صحن الغداء و العشاء و سابقهم الفطور و كيف أن الثلاث تعاضدوا فصنعوا دوامة من ضباب ينسل بين السيارات و الشوارع في مدينتك الجديدة أرجو أن تجدي بها المتع و أما عن حزّن التأمل فقد عانيت منه قبلك لما سكنت تلك المناطق قليلا من وقت اسميها حزن في طوفان العظمة و لا اريد ان اطيل عليك الحديث أمتعتينا في هذا المقال نسمع أنين القلم تحت طلقات الأواني .. ألقاك بإذن الله في خير

  2. اهلاً وسهلاً
    بالعروس سارة 🙈
    بما أنني أسبقك بفترة إليك نصائحي
    اولاً أطلبي غسالة الصحون ولا تترددي
    خليّك فطينة ما انوجدت إلا لراحتنا 🫣+
    الأطباق حدث ولا حرج لكن بعد الوجبة مباشرة اسكبي عليها كمية وفيرة من الماء المغلي + حتى القدر وهو الأساس اغمريه
    وفي الأثناء خلال الدقائق الخمس
    هذه لمي شعرك ورتبي اي شي اخر وارجعي لهم ستلاحظين غسلها يكون اسرع
    ثانيا : كلما تخلصتي من مصدر الطبخة” القدر ” اسرع
    كلما اختفت رائحة الطعام
    ثالثا : اتبعي قاعدة الخمس دقائق لكي لا يتراكم عليك شي
    ولكن لنفسك عليك حق ، لابد ان يكون هناك وقت
    استرخاء وتتركين الشغل كُله جانبا✨

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top