في مجلس يتكون من خمس كنبات بنية مؤطرة بالذهبي، والكثير من فناجين الشاي التي يعاد ملؤها كل دقيقتين، تفوح رائحة كعك البرتقال المخبوز حديثًا، والكثير من الأحاديث الغير مكتملة والآراء والتجارب الغريبة، تقول بصوتها الحاد والعالي:”خلوني أقول لكم أنا وش سويت مع بنتي عشان تعرفون إن كل اللي تسوونه غلط في غلط.” يعم الهدوء، يعاد ملء فناجين الشاي، وتتقاطع الأرجل فوق بعضها البعض، ويتبادل الحضور النظرات.
تعيد ربط عنق بلوزتها الحمراء، ترطب شفتيها، تضع خصلات شعرها وراء أذنها وتكمل:”أنا ما أحب شغل العلاجات الشعبية، يقولون لي اقري عليها، روحي الشيخ الفلاني، شربيها موية مقري فيها، هذا الكلام كله ما أحبه. ولا تجيك وحدة تقول عطيها كاجو ومكسرات، وتزيد عليها وحدة عطيها قشر برتقال مجفف ومغلي مع حلبة، يبوني أذبح بنتي، لا والله ما بعد شبعت منها للحين…”
ينقطع حديثها بصوت يقاربها في الحدة:”طيب ترا الكاجو وعين الجمل معروفة إنها مفيدة وحتى الدكتور…”
ترفع يدها مفتوحة بالكامل أمام وجهها، وتقول:”خلوني أكمل كلامي بعدها قولوا اللي تبغون. أنا يوم إني لاحظت إن بنتي موب معنا، بديت أشك بالموضوع. إذا جلسنا نشرب قهوة كلنا مع أبوها واخوانها ما تقدر تركز بسوالفهم كلها، تسأل بين دقيقة والثانية عن تفاصيل قالوها وخلصوا، وعن مواضيع فتحناها وسكرناها من بداية الجلسة، حتى إنها صارت تنسى إن جوالها معها بيدها! تجي تسألني وين حطيت الطحين عشان تسوي بان كيك وهو بمكانه ما غيرته بس ما تشوفه، موب ما تشوفه، تشوفه هي، بس ما تنتبه إنه قدامها. كنت أحسب إنها مسبوهه، طالعة على خالتها، سريعة التشتت؛ وبسبب الجينات ما اهتميت. بس يوم إني رحت لاجتماع الأمهات بالمدرسة، قالوا لي المعلمات إن مستواها انخفض، إنها ما كانت كذا أبدًا، ملاحظتها قلّت، وانتباهها شبه انعدم، وإنهم يعطونها نص نثري تحفظه وتجلس الحصة الدراسية كاملة تردده وتسمّعه آخر وحدة من بين كل زميلاتها، وهي كانت تسمّع أول وحدة. أنا يوم قالوا لي كذا، رجعت البيت، وقررت أحاول ألاحظ بنتي، وفعلًا صارت زي ما يقولون، تدخل المطبخ وما تدري هي ليه دخلته، تطلع وترجع له مرة ثانية. تجي تسألني أكثر من مرة عن مكان شيء واحد، وتسألني مرات أكثر عن أسماء الأشياء، أقول لكم ذاك اليوم نست اسم اخوها الصغير! اللي ما عندها أغلى منه! يوم شفت إنها كذا رحت قلت لأبوها، وقلت بس الحين بياخذها معي للمستشفى، إلا إنه قال مثل ما قلتوا، إن المدرسة السبب، هي اللي غاسلة مخها، مع الضغط صارت ما تتذكر شيء، وإنها فترة وتجي الإجازة وترجع زي ما كانت وأحسن. أنا أموت وأعرف من وين جاب هالثقة، عجزت أشرح له، ورافض إننا نوديها المستشفى. وجاء من بكرة، وأشوفه الصبح طالع من الدوام وجاي البيت معه كيس كبير مكسرات، وكرتون توت، وسمك. واسأله ويقول إنه سأل عن أكلات تزيد التركيز والذاكرة وقالوا له لا تتعدى السمك والتوت والمكسرات، جابها كلها، ويامرني أطبخها لبنته، وما يدري إنها ما تاكل أصلًا سمك، ومن سابع المستحيلات تاكل المكسرات العادية اللي بدون نكهة. حطيت يدي على راسي وقلت لازم أحل هالمسألة أنا بنفسي. وأروح اسأل جارتنا أم تركي، واستشيرها، ما شاء الله بنتها دكتورة، وأكيد تعرف شيء ولا تسأل بنتها.”
تتم مقاطتها مجددًا، تقول إحدى الحاضرات:”ما شاء الله بنت أم تركي دكتورة! دكتورة وشو وبأي مستشفى؟”
تعاود الحديث مجددًا بعد أن بللت ريقها بالماء:”ايه ما شاء الله دكتورة باطنية، بس والله ما ادري أي مستشفى، ولا ادري والله ان كانت خلصت تطبيق ولا لا، بس اني عاد رحت زرتهم العصر ذاك اليوم، وعلى حظي شفت بنتها، والله يا انها ما عاد انها بنت امي تركي اللي نعرفها، وين ذيك البنت اللي تطلع للشارع حافية، غدت حرمة، والله لو تشوفون السنع والزين والشعر اللي الى فخذها ما تقولون انها هي نفس البنت. عاد أنا جبت طاري بنتي وإني متضايقة من اللي صاير لها هالأيام، وإلا بنت ام تركي تمدح حبوب بالصيدلية تقول لا تتعدينها، عاد أنا والله ناسية هي وش قالت بالضبط، الحبوب وش تحتوي وش تزيّن بس اني شريتها، توكلت على الله وعطيتها بنتي زي ما وصفها الصيدلي، حبة بالليل وحبة الصبح، عاد مع إنه نصحني أمر عيادة بس قلت خلني أجرب هالحبوب أول وش بيضرنا كلها مكونات طبيعية يقول، إن ما نفعت ما ضرت ان شاء الله. المشكلة إن الحبة كبر يدي، ياالله نقسمها نصين ولا ثلاثة عشان تقدر تبلعها بنيتي، وبس هذا حالنا كل يوم، نقصص هالحبوب عشان تاكلها. ما مر إلا أسبوعين والبنت متغيرة، أشوفها صارت حركة أكثر، نشيطة، تدور بالبيت دوران، تسولف سوالف ما تنقطع، سالفة ورا سالفة، عاد صادقت بنت جديدة وما غير تسولف عنها، وهي أول نشحذها شحاذة تعطينا كلمة وحدة. تسوي بان كيك بدون ما تسألني عن مكان الطحين، وتاخذ معها حبتين للمدرسة عشان تعطي صديقتها الجديدة، وصارت تذكر إن عندها واجبات وحفظ وتحفظ بالبيت بسرعة وتسمعه ثاني يوم بالمدرسة. أقول لكم إنه ما فيه أحسن من الطب، بدال ما نحوس حنا لحالنا وتصير ريحتنا حلبة على غير فايدة وأقول لكم عاد انتبهوا…”
ينقطع حديثها، تدخل ابنتها المجلس، تضع صينية الفاكهة على الطاولة في منتصف المجلس، ترفع رأسها لتجد الجميع ينظر إليها، تخجل، تبتسم هي بدورها، تمسك يدها اليسرى وتفتح باطنها خجلًا كعادة تفعلها دائمًا. باطن يدها اليسرى أسود، يجذب الانتباه، تقول إحدى الحاضرات:”وش فيها يدك من داخل سوداء؟” ترد الابنة:”هذا الوقت اللي آكل فيه الحبوب اللي تعالج النسيان، اكتبه بيدي عشان ما انساه، مع إني أحيانًا انساه حتى وهو بيدي، عشان كذا حاطة منبه بعد”
استاذتي المتألقة سارة
بعد التحية،،
نجد هنا أن الأم أكثر سباه منّ بنتها فهي لا تدري ما اسم دواءها و نجد صفحة سوداء صفحًا في كف يرد المرء القهقرى إلى قعر الجهالة ،،
موفقة دوما ،،
ننتظر المزيد،،