عن السفر وحيدة لأول مرة

لا أتذكر يوم واحد مهم في حياتي بليلة هانئة ونوم طويل غير متقطع، قد يكون السبب أحيانًا التوتر الذي يسيطر على كل خلايا جسمي، يجعلني أفكر بكل الاحتمالات، أسوأها وأفضلها. وأحيانًا تكون الصدفة هي السبب الرئيسي، فكثيرًا ما تصادفت أكثر أيامي أهمية مع أسلوب نومي العشوائي، فينتهي بي الحال دائمًا بالنوم لساعة أو ساعتين قبل أي حدث مهم. وكما هو متوقع، في اليوم الذي سأسافر به وحيدة لأول مرة، أنام لساعتين فقط. لم يكن التوتر هو السبب هذه المرة، وهذا غريب، وإنما نمط نومي الذي اختار أن يتخبط في أحد أكثر أيامي أهمية. 

استيقظت في الخامسة صباحًا، قمت بكي الملابس التي سأرتديها، وحرصت على أن آكل لقمة قبل الخروج من المنزل، وكانت فعلًا لقمة لأنني شعرت بدوار غريب منعني من إكمال طعامي. انطلقت للمطار بروح معنوية عالية بالرغم من سوء مزاجي بسبب نومي، والفضل يعود بعد الله لزوجي الذي يشتعل نشاطَا وإيجابية، يعديني بها وأنطلق متحمسة لما ينتظرني خلال اليوم. نخرج من المنزل تحت سماء وردية صافية لم تتطفل عليها أشعة الشمس بعد، نسمة هواء لطيفة، وتغريدعصافير استيقظت للتو. نشتري أكواب نعناع دافئة ونمضي في طريقنا للمطار. 

لا أعلم عن السبب الذي جعلني أترك كل وسائل تمضية الفراغ الخاصة بي بالمنزل، فذهبت للمطار لا أحمل كتابًا، ولا سماعة، ولا حتى أيبادًا، مع علمي أنني سأمضي أكثر من ساعة في الانتظار. قضيت وقت فراغي في تأمل مرافق المطار، في الأوجه، في القصص، في الحشرة العملاقة التي تطير فوق رؤوسنا، والعثة التي ركبت معنا الطيارة وأغلق عليها المضيف في كابينة الحقائب حتى وصولنا للرياض، فنزلت معنا في مكان جديد كليًا، بدون أن تدفع أية تكاليف.كانت الصدفة هي المنقذة لقراري بالتخفف، ففي طائرة مليئة بالأجداد والجدات والمرافقين من الأحفاد والأبناء، يتغير ترتيب المقاعد، تؤخذ كراسي وتستحل صفوف كاملة لعائلة واحدة. انتهى بي المطاف بكوني واحدة من ضحايا تغيير المقاعد، فتم الاستلاء على مقعدي، وجلست في مقعد آخر في نفس الصف بجانب النافذة، وأصبحت في صف مكون من النساء فقط، وكانت تلك بداية لأحاديث غير منقطعة طوال الرحلة.

ابتدأت الحديث قائلة للمرأة بجانبي: “أنا هذي أول مرة أسافر لحالي.” وردت أنها هي أيضًا كذلك! وكان هذا العامل المشترك هو العامل الذي قررت أن أتكئ عليه، سألتها أسئلة عن الطيران أعرف إجاباتها، وتركت لها حرية الإجابة بدون تصحيح. وبما أننا أيضًا كلنا انطلقنا من الباحة، كانت الباحة هي إحدى المواضيع الرئيسية، تحدثنا عن معاناتنا مع الجراد والحشرات العملاقة، والباعوض الآكل للحم البشري. وبعد سلسلة طويلة من الحلطمة غير المنتهية عن الحشرات، قلت: “بس والله إني أموت بالباحة، أحبها.” وردت:” حتى انا والله أتمنى أرجع أسكن فيها.” وكان ذلك أيضًا عاملًا للمزيد من الأحاديث الجانبية. ولحسن حظي، كنت المترجمة لها عند حديثها مع المضيفة الأجنبية، وكان فهمي وحديثي للغة الإنجليزية مثيرًا بالنسبة لها، وتجدد شعوري بالامتنان لمعرفتي للغة أخرى غير العربية. 

لأكون صادقة، لدي كتاب قمت بتحميله على هاتفي، وقلت في نفسي أنه للطوارئ فقط، كوني أولًا لا أقرأ أبدًا على هاتفي سوى المقالات القصيرة، وثانيًا أقول دائمًا أن الأماكن العامة والخارج بشكل عام أماكن مثيرة للاهتمام أكثر من أي كتاب. وكان المطار مليئًا بالقصص، واللحظات التي تتطلب مني ملاحظتها والتأمل فيها. أعتقد بأني محظوظة هذه المرة لأن رحلتي لم تتأخر، وهي أصلًا رحلة لساعتين فقط، وجلست بجانب شخصية مشابهة لشخصيتي، فلولا ذلك لكنت شعرت بالملل بالتأكيد، ولندمت على إصراري بالتخفف، وبالرغم من احتمالية ندمي بتكرار هذا إلا أنني أود تجربته مجددًا. أترقب رحلة العودة وأتمنى عيش تجربة مشابهة، لكن بنوم كاف. 

أما عن العودة لمنزل والدي بعد غياب لثلاثة أشهر، فهو كالعودة لنفسي القديمة، وخصوصًا بعد ارتدائي للملابس التي تركتها ولم آخذها معي للباحة. شعرت بالغضب من نفسي، فعندما صففت للصلاة، أخطأت في القبلة، وعندما عزمت على إعداد الفطور نسيت أماكن الأواني، حتى ذاكرتي التي من المفترض أنها بنيت على العادات التي كبرت عليها لم تفدني، وأصبحت ككل النساء المتزوجات حديثًا اللاتي كنت أضحك عليهن وأقسم أنني لن أكون مثلهن، لكنني أصبحت مثلهن. قد تكون حالي عقوبة على ضحكي، وأتمنى أن يتوقف الأمر على هذه فقط. 

حتى الاثنين القادم الذي أكون به قد عدت للباحة إن شاء الله، إلى اللقاء أصدقاء. 

*حاشية

استيقظت اليوم على خبر صدور قصتي – غرامة الصحون المكسورة – في المجموعة القصصية التابعة لسلسلة قصص من السعودية والمسماة هذه المرة بـ وقع الأخفاف، وتحتوي على 16 قصة قصيرة من نخبة الكتاب المبدعين. أشيد بالكتاب، وأضمن لكم القراءة الماتعة بالتأكيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top