ثلاث شنط كبيرة، شنطتان خاصتان بالأم والثالثة مستعارة من الأب، بعد عدة تهديدات وتعليمات خاصة. يظن الأب أن شنطة النزهات البرية خاصته قد تتلف بنزهة عادية للملاهي النسائية، وهي شنطة مصنوعة من الجلد المضاد للماء بالإضافة إلى وجود عزل حراري فيها وذات هيكل شديد الصلابة، من الممكن أن تنكسر الأم أثناء حملها بدلًا من أن يتلف أي جزء من الشنطة، لذلك لم تفهم الأم تمامًا لما المبالغة في مسألة إعطاء الإذن لاستخدام الشنطة. صحيح أنها أحرقت الشنطة التي تسبقها، بوضعها للإبريق الساخن بالخطأ في داخلها، إلا أن حوادث كهذه لا تتكرر مرتين، إلا إن كانت الأم سيئة الحظ لتلك الدرجة، وهي تقريبًا كذلك، لكنها لا تؤمن بهذا. تملأ الأم الشنطة الأولى بكل شيء بلاستيكي يخطر على البال: كؤوس، سفرة، صحون، سكاكين، ملاعق، أكياس وقفازات فقط تحسبًا لأن لا أحد يعرف متى يحتاج للقفازات. وأما في الشنطة الثانية فهي تحتوي على نصف ما في دولاب المطبخ من أواني: فناجين، بيالات، حافظة طعام، أواني للتمر خاصة بالتصوير، سفرة خاصة بالتصوير، علبة مناديل و ملاعق وسكاكين حديدية تحسبًا في حال انكسرت البلاستيكية. وأما في الشنطة التي يجب أن تكون حذرة في استخدامها احتوت على: صحن ورق عنب، صحن سمبوسة جبن وآخر لسمبوسة اللحم، علبة فشار أبيض: لأن اختها تحب الفشار التي تعده هي، وكيس كبير من بطاطس ليز الجبن، وترمس صغيرة قهوة وأخرى من الشاي، مع أنها غير ملزومة حسب التقسيم الذي قاموا به بإحضار المشروبات، إلا أنها تقول دائمًا أن الزيادة خير من النقصان.
يجتمعن، خمسة أخوات، كل واحدة مع أفلاذها، من جميع الأعمار، من المواليد حتى العمر الذي يكذبون به للصبية عند الدخول للأماكن النسائية. ثلاث سجادات خضراء عملاقة للجميع، تفرش بجانب بعضها البعض، وسجادة أخيرة رابعة حمراء صغيرة نسبيًا مقارنة بالثلاث السابقة، توضع على بعد ستة أمتار للفتيات اللاتي لديهن شيء لقوله دائمًا، واللاتي يحصلن على عشاء مختلف عن الجميع في كل مرة، لديهن شهية غريبة، وحكايا أغرب تصل بوضوح لسجادة الأمهات اللاتي يتغاضين عن كل يسمعنه خشية إفساد العلاقات بينهن وبين بناتهن. وبين هذه السجادة وتلك مجموعة ضائعة، المرحلة الابتدائية وبداية المتوسطة، مجموعة غنية بالتنوع، تربطها علاقة بهدف واحد، يترأسها الأكبر سنًا من الموجودين، ورغبتهم الوحيدة تذوق كل ما يستطيعون الوصول اليه من طعام، وتجربة كل الألعاب الموجودة في الملاهي. لا ينفكون بتذكير الجميع بأنهم أهل للمسؤولية، وأنهم يستحقون مصروفًا أكثر من الذي يعطى لهم، يطلبون بلا كلل أو ملل الإذن بالذهاب للجهة الأخرى من الملاهي، والمزيد من المال لشراء الذرة والبليلة والألعاب التي تذكر الجميع بأنهم ما زالوا أطفالًا، كصندوق العلكة الذي يحتوي على صرصار في داخله، والقلم الذي يرسل موجة كهربائية لاسعة في لحظة استعماله، وهي ألعاب قديمة يعرف الجميع شكلها وشعورها، اختفت من كل الأماكن والأسواق إلا أكشاك الملاهي التي لا تؤمن بمرور الزمن.
هي في الصف الرابع، تتشارك مع والدها في كره أن تلمس أغراضهم، وكما رفض والدها في البداية إعطاؤهم الشنطة الخاصة به، ترفض هي أن تشارك مجموعتها طعامها وغنيمتها من سجادة الأمهات، تجلس لوحدها وسط مجموعتها ويوجه الحديث للجميع سواها. انسحبت تدريجيًا من المجموعة، مشت خطوتين بدون أن ينتبه لابتعادها أحد، الأمهات منشغلات في الحديث عن الخادمة التي هربت مؤخرًا، ومجموعتها منشغلة في التخطيط لكسب المزيد من المال. تبتعد شيئًا فشيئًا عن المكان، تمسك بيدها اليمنى تذاكر اللعب التي أعطتها إياها أمها في البداية، وفي يدها اليسرى كيس من بطاطس الليز الذي لم يفتح بعد. تدهشها الأضواء، كل لعبة بأضواءها الخاصة، الصراخ والضحك والطعام في كل مكان، تمشي والهواء العليل يحرك شعرها القصير، تشعر بارتياح، تفكّر في الألعاب الكثيرة التي ستلعبها، يجذبها ضوء أبيض ساطع، تتبعه بدون توقف، تصل لمسرح صغير يرتفع عن الأرض بمسافة متر واحد، توضع فوقه الكراسي وتضاء سماعات عملاقة بجانبه. تتجمع الأسر أمام المسرح، تنقل الكثير من السجادات إلى مناطق قريبة من منه، ويتجمع الأطفال بجانب بعضهم البعض على امتداده. تجلس هي على الأرض، بدون سجادة، وبدون رفيق. تتأمل المسرح أمامها، وفي فكرة أنها قد تكون محظوظة للصعود عليه في أي وقت. تقترب منها فتاة بنفس طولها، بعباية كتف سوداء بدون أن تضع طرحة، شعرها في ذيل حصان طويل وناعم، وأسنانها بارزة، تحمل في يدها كيسًا، تقول:”تبغين مساويك أو خواتم؟” ترد على البائعة:”ايه أبي مسواك.” وهي لا تعلم ما هو المسواك ولا كيف لها أن تستخدمه. تقول البائعة الصغيرة:”عطيني تسعة ريال.” وترد بتردد:”ما معي.” تضحك البائعة، وتستفسر منها رغبتها بالشراء بدون أن يكون معها أموال. ترد هي الضحكة وتسألها عن الأشياء التي تبيعها. يتبادلن الأحاديث، وتطول وقفة البائعة، تقول:”تجين معي ندور؟” تهز رأسها بالموافقة، ويذهبن للبيع على جميع الأسر أمام المسرح.
يتقاسمن حمل الكيس البلاستيكي، ويتنقلن ما بين سجادة وأخرى، تتعرف عليها بعض النسوة ويسألنها عن أمها وعن الفتاة التي ترافقها، تقول:”أمي جالسة بالجهة البعيدة مرة، وأنا جيت أساعد صديقتي هنا.” تنتهي المحادثة هنا، لأن الموضوع ينقلب همسًا بعيون مصوبة عليها وعلى البائعة، تتركهم وتستمر بالتنقل هي والبائعة بين النساء. لم يبعن إلا سبعة مساويك وخاتم، تقلب البائعة المال بين يديها وتقول لرفيقتها:”تبغين نروح نشتري شيء؟” تهز رأسها بالإيجاب وينطلقن إلى أقرب كشك، يشترين الفشار الأبيض والعصير المثلج وعلكة. يجلسن على العشب الأخضر، يأكلن، يضحكن ويخططن. وكفقرة أخيرة، يذهبن للعب بالألعاب. يتوجهن أولًا للسفينة، إلا أنهن يمنعن من الدخول لصغر سنهن. يغيرن الطريق ويتوجهن لأطول طابور، طابور لعبة قطار الموت، إلا أنه بعيد كل البعد عن هذه التسمية الدرامية، فهو أولًا لا يرتفع عن الأرض قيد أنملة، وثانيًا فهو من البطء الذي يجعلك تريد أن يتوقف في منتصف دورته، لذلك لا يعرف السبب وراء تلك التسمية إلا إن كانت للسخرية. تفوح رائحة الزيت والحديد من القطار، ينزلن ويقررن أن يركبن الفناجين الدوارة، فهي بالتأكيد أسرع من قطار الموت ذاك، وكانت فعلًا كذلك. يركبن فنجانًا واحدًا، الواحدة أمام الأخرى، تتوتر وتعرق يدها، تحاول الابتسام بأسنانها الصفراء على مضض، تبادلها البائعة الابتسامة بأسنانها البارزة، يشكلن بذلك فريقًا رائعًا لمشاكل الأسنان. يحركن أرجلهن يمينًا ويسارًا بترقب، ويبدأ الفنجان بالدوران. يبدأ الدوران بطيئًا، بل شديد البطء، وتزداد سرعته تدريجيًا، حتى تفقد القدرة على تمييز العالم من حولك. يصيبها الغثيان، تتمنى أن يتوقف الفنجان أو حتى ينكسر. بعد دقائق قليلة معدودة كانت كالساعات، يتوقف الفنجان أخيرًا. صمت، يتنفسن بصعوبة، تضع يدها على قلبها وتبتسم، تقول:”أخيرًا وقف.” تجيبها البائعة بضحكة مدوية، تجذب الأنظار لهم، تسألها باستنكار:”وش اللي يضحك؟” ترد البائعة وهي ما زالت تضحك:”علكي طار وجاء على شعرك!” تهلع لوهلة، لكنها مع ضحك البائعة المستمر تضحك هي بدورها، تحاول إيجاد العلكة، تتلمس شعرها بيدها، تجد العلكة ملتصقة بالخصلة القريبة لأذنها اليمنى، تحاول سحبها ولكنها تزيد الأمر سوءًا، تمتد العلكة من الأعلى للأسفل، تضحك وتقول:”شكلي لازم أروح لأمي.”
—
تقول الأم ردًا على أختها:”ايه أنا أذكر قد جبت شغالة يوم بنتي عمرها خمس سنين، مستحيل أنساها، اصبري خليني أسأل بنتي عنها أكيد تذكرها.” ترفع الأم صوتها وتصرخ:”جود، جود، وين جود؟” تلتفت مجموعة جود للنداء، يبحثون عن جود بينهم، لكن لا أثر. تقول الأم:”بنتي جود موب عندكم؟” ترد المجموعة بالنفي، تسأل الأم مجموعة الفتيات القريبة:”يا بنات عندكم جود؟” ترد إحداهن:”وش يجيب جود عندنا.” تنهض الأم هذه المرة، تصوت باسم ابنتها، لكن لا يوجد أي رد، تقول:”يمه بسم الله على بنتي.” ينهضن أخواتها معها، يتأكدن من وجود أبناءهن، يأمرونهم بالجلوس هنا بينما يقمن هن بالبحث عن جود. تبدأ الأم بالهلع، تمشي واضعة يدها على قلبها، تسأل عن ابنتها، تراقب الألعاب والكراسي، تصف ابنتها لكل من تقابله في طريقها، تقول بصوت متهدج:”ما شفتي بنت هالطول، شعرها قصير أسود وعليها بنطلون جينز أزرق وبلوزة وردية؟” تقول إحدى الموظفات:”شفت بنت زي هالمواصفات تدور وتبيع مساويك وخواتم مع بنت ثانية.” تتوقف الأم لوهلة، غير قادرة على الرد، ترد عنها أختها:”لا بنتنا ما تبيع شيء شكلك غلطانة.” يستمر البحث، وتتوزع أعينهن لكل الأكشاك والبائعات المتجولات.
يركض ابن اختها البالغ من العمر ثلاثة عشر سنة ويقابلهن أمام إحدى الألعاب، تقول والدته بغضب:”أنا ما قلت لكم لحد يتحرك من مكاننا!” يقول:”جود جت عندنا.” تتنفس الأم الصعداء، تقف غير مصدقة، تسحبها اختها من يدها ويعدن سريعًا لمكانهن. تقف جود بين مجموعتها، أشبه بدائرة تحقيق، الأسئلة تمطر من كل مكان، غير قادرة على الإجابة على كل الأسئلة. تخترق أمها الدائرة، تضرب ساعدها بقوة، وتقرصها مرة ومرتين وثلاث مع سيل من الشتائم، وتزداد تلك الشتائم برؤية الأم للعلكة في شعر ابنتها، تقول بعد أن أخذت نفسًا:”لا حول ولا قوة إلا باالله، طلعوا القفازات من الشنطة وأنا بقوم أجيب ثلج من كشك العصير.”