من الهضبة إلى الجبال

By @4qk_1

بعد الزواج وانتقالي من محافظة بوسط نجد إلى منطقة أخرى في الجنوب الغربي من المملكة، أعيش أيامي بعدّ الفروقات بين المكانين. ولا أقول بأن هذه النقلة الكبيرة سيئة، بل على العكس تمامًا، وقعت في حب الباحة، ولا أرضى عليها بأي انتقاد كما هو الحال مع الزلفي. ولكنني أجد المتعة في المقارنة، فأوجه المقارنة بينهما كثيرة ومتنوعة، وأجدني في كل لحظة أقول:” يوه لو كنا بالزلفي كان كذا وكذا” قد أكون تعلّقت بالزلفي لذلك أجد نفسي أكرر تلك الملاحظات، لكن من يولد ويشب في الزلفي ولا يتعلق بها؟ أكتب لكم اليوم أسباب ولعي بكلا المكانين والفروقات بينهما.

العيش السريع

أقصد بالعيش السريع أن أطول مشوار في الزلفي والباحة قد يكون لعشرين دقيقة، ونستطيع بالعشرين دقيقة هذه أن نتوقف في أكثر من مكان، نسلّم، نأكل، نتمشى، ولن نتأخر عن موعدنا. وكانت أكبر مخاوفي قبل الزواج أن أعيش في مكان أقضي فيه وقتي بالسيارة أكثر من أي مكان آخر. عشت حياتي في سرعة هائلة، في الزلفي خلال يوم واحد نذهب في زيارة عائلية، ونخرج للذهاب للسوق، نعود لإعداد العشاء ويتبقى الكثير من الوقت على منتصف الليل. كما هو الحال في الباحة تمامًا، استغرق منا الذهاب للمشى بالأمس دقيقتين، ولأكون واضحة فإننا نسكن بجانب الممشى، لكننا إن أردنا الذهاب لأقرب ممشى آخر لن يأخذ الموضوع سوى سبع دقائق.

اختلاف الأحوال الجوية

قبل أسبوع، اقترحت أن نخرج في نزهة قبل غروب الشمس، وقبل أن نصل للمكان الذي نقصده أظلمت السماء فجأة. غيوم سوداء متطابقة فوق بعضها البعض، نمشي داخلها بارتفاعنا على الجبل. نعود أدراجنا قبل أن نصل للمكان المنشود بفعل البرق، برق متشعب وكثير يضرب الأماكن أمامنا بدون توقف. وكنت قادرة على تمثيل الشجاعة حتى بدأ هدير الرعد، كانت الأرض تهتز من تحتنا، ويأتي صوت الرعد مفاجئًأ من كل مكان، أصوات رعد قوية لم أجرب سماعها من قبل. وكانت تلك هي أول مرة أعيش بها عاصفة رعدية، فكل العواصف التي عشتها كانت ترابية. اعتدت على أن أحرك شعري لأنفض التراب من فوقه، لكنني لم أجرب أبدًا أن يحاصرني البرق من كل مكان. ولم أكن مثيرة للشفقة حتى صليت في المسجد بجانب امرأة من الباحة، كان البرق يضرب الأرض خارج النافذة، والرعد يهز المكان، وعند الجلوس لقراءة الشهادتين كانت ركبتاي تصطكان ببعضهما البعض، بينما المرأة التي بجانبي لم تتحرك قيد أنملة. أشعر بأنني أصبحت من أهل المنطقة، أعرف وديانها ومساجدها وزواياها، اعتدت على أجواءها وحشراتها، لكنني في لحظة هطول المطر أعود لجذوري الزلفاوية العطشة للمطر، والغير معتادة على عواصفه ورعوده، أجلس خلف النافذة وأمد يدي لألمس القطرات الباردة، وأغمض عيني لحظة البرق. وأما عن تخزين ملابس الصيف وإخراج ملابس الشتاء فهي عادة غير متعارف عليها هنا، فالأجواء متقلبة شديدة التقلب، فاليوم نرتدي الملابس الصيفية ونأكل الايسكريم، وفي الغد نتردي الصوف ونغلق التكييف.

التضاريس

من العيش على الهضبة إلى العيش بين الجبال، من على أرض مسطحة وكثبان رملية تلتهم كل شيء، إلى جبال تتخفف من صخورها بشكل دوري. حتى بوجود جبال طويق في نجد، فإنها تختلف عن تكوين الجبال هنا في الباحة. وهذا ليس شيئًا جديدًا أتعلمه حديثًا، لكنني استطعت استيعاب الفروقات بينها بشكل مباشر. الجبال في نجد أشبه بصبة اسمنتية، صلبة وشامخة، لونها فاتح، وتحوفها التربة من جميع الجهات. أما بالنسبة للجبال في الباحة، فهي حادة، توحي بالتحدي، وتهدد بالخطر، خضراء وتقارع السحاب. وأكثر ما جذبني في جبال الباحة : الجبال المحفورة منها، فتجد جدار الجبل المقصوص يخفي طبقة جميلة من الصخور الملونة. يقول زوجي برؤيته لإحدى الجبال:”كأنها متركبة قطعة قطعة.” وأوافقه بشدة، فالجبال هنا يصعب التصديق أنها حقيقية، شيء مهيب، ويدعو للتفكر.

دخلت الباحة لأول مرة في الليل، فلم أعرف من طريقها شيئًا، لكنني في أول مرة أغادر الباحة، وفي طريقنا متجهين للطائف عصرًا، استقبلتنا بعض المزارع على الطريق، وكانت تلك المفاجأة، رأيت نخلة للمرة الأولى بعد شهرين من الغياب. ولم أعرف أنني اشتقت للنخيل لتلك الدرجة. شهقت وقلت:”الله نخل!!” ولم أعرف وقتها أنني اشتقت للزلفي إلا بعد أن خفق قلبي للنخلة، ولم أعرف قدر النخلة حتى فقدتها. اكتشفت بابتعادي عن مزارع النخيل أنني مولعة بالنخيل، أشتاق لرؤيتها وأتحمس لحضور مواسمها. لكن اشتياقي يخف برؤيتي لنباتات وأشجار الباحة، الورد ينمو بكل مكان، لا تأكله الطيور ولا يسقط مع حرارة الشمس. أشجار خضراء عملاقة، تعانقني وتهدئ قلقي وشوقي.

الفن العمراني

تتميز الزلفي ببيوتها المكعبة، وأولها منزلنا. فكل البيوت متشابهة ولا يختلف فيها إلا ألوانها التي تتنوع بين درجات البيج. كل شبر من أراضي الزلفي قيس بالمسطرة، البيوت أحجامها متقاربة ومتراصة بجانب بعضها، نمشي في طرقات مستطيلة ومرتبة، وكل طريق يشبه الطريق الذي قبله ولا تتميز إلا بمحلاتها. إلا أن الوضع يختلف هنا بالباحة، فهناك تباين مختلف في ألوان المنازل ويقول عنها زوجي:”ألوان جريئة”. بيوت كثيرة وردية، أدعو ربي أن يتعود زوجي عليها ليسهل إقناعه مستقبلًا بصبغ منزلنا بالوردي، منازل زرقاء، خضراء، وبنفسجية! وقليلة هي المنازل التي تتكون من طابقين، فكلها ثلاثة وأربعة، أبوابها مفتوحة طوال الوقت، وأشجارها فارعة الطول وكثيرة. المسافات تختلف بين البيوت، فنجد منزلًا وحيدًا على جبل، وعدة منازل صغيرة على جبل آخر، والطرق بينها ضيقة لا تكفي إلا لعبور سيارة واحدة. تنتشر المزارع الصغيرة بجانب البيوت، يزرعون الرمان والتين بكثرة، تذوقت الرمان وكان ألذ رمان أكلته في حياتي، لكنني لم أجرب بعد باقي خيرات الباحة.

من الهضاب والجبال والنخيل والتين، ألقاكم الاثنين القادم يا أصدقاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top