معضلة البقدونس

تضع البقدونس فوق كل شيء، فوق صينية المعكرونة بالباشاميل، فوق الكبسة، وعلى ستيك اللحم، وإن اتيحت لها الفرصة لسوف تضعه بالتأكيد على قمة كرات الايس كريم المصفوفة فوق بعضها البعض. تفكر بالبقدونس على أنه الخيار الأول لتزيين أي أكله، ووجود ورقتين منه على وجه أي طبق لهي كافية لفتح الشهية، وستكون داعية لتصوير الطبق ووضعه على السناب تشات. تنشغل كثيرًا بالبحث عن الوصفات الجديدة، ويغيب عن بالها تمامًا تعلم الأساليب الصحيحة للطهي أو عن النكهات اللذيذة التي تستطيع مزجها معًا، فالأهم بالنسبة إليها من تعلّم مدة سلق البيض البحث عن وصفة لعمل صينية بيض سريعة وسهلة. تشعر بأن البقدونس هو الحل لكل شيء، تغليه وتعد به شايًا للتخسيس، تضربه بالخلاط مع مكعبات الثلج وتشربه كالعصير لتصفية بشرتها ولحماية نفسها من أنواع الالتهابات كلها، تعد به التبولة التي تجعل منها الطبق الرئيسي في الوجبة، وتجففه وتنثره فوق أي طبق يحتاج لتزيين عاجل.

لم تكن والدتها من الأمهات الداعمات أوالمتحكمات، لم تشجعها لفعل شيء، ولم تصرفها عن فعل أشياء أخرى. لم تعطها نصائح، ولم تأمرها بأن تكون كأي أحد، لم تقارنها أبدًا بقريناتها من أقربائهم، ولم تطلب منها يومًا أن تعد طبقًا. كانت والدتها حاضرة بقوة مع أخواتها الأكبر سنًا، وغابت تمامًا عن المشهد معها. ولو كان التقاعد عن الأمومة مصطلحًا معروفًا، لكانت والدتها قد تقاعدت منذ مدة. ونظرًا لاختفاء الاحتفاء سعيت هي بجد لاقتناصه، رسمت، نحفت، وأطالت شعرها، وطبخت. ولم يكن هذا كله مدعاة للاهتمام من أحد، لم تتلق سوى تعليقات عابرة من أخواتها وإخوتها وبعض متابعيها على مواقع التواصل الاجتماعية. حتى تزوجت.

كان زوجها حنونًا، عطوفًا، شديد الاهتمام بها، ولو اختفت الجاذبية من الأرض لن يفقد توازنه بتواجدها بجانبه. كانت بسوء قدرتها على تنظيم وقتها وسرعة انفعالها ورداءة طهيها تشعره بالأبوة، فكان يشفق عليها أيما إشفاق، يشجعها على كل خطوة تخطوها، وعلى كل قرار تتخذه. وكان في كل مرة يقترح عليها أن تترك الطبخ وأن يستقدموا عاملة لتطبخ لهم كانت ترفض، ويشتد حنقها، لأنها ترى في طهيها له ردًا للجميل الذي يغدقه عليها منذ تزوجته. فكان في كل مرة يرى البقدونس على طبقه تنقلب معدته، يعرف بأنها وصفة جديدة يجب عليه أكلها واحتمالها. وكانت تقول من الطرف الآخر من طاولة الطعام الدائرية:” والله اني من العصر كنت بالمطبخ أسوي العشاء، هذي الوصفة جديدة وتحمست اسويها. من الأسبوع اللي فات وأنا أخطط لها، باالله ايش رايك بالبرتقال مع اللحم؟ لذيذ صح؟” وكانت وهي تقول تلك الجملة تعيد ترتيب شعرها الذي كاد يحترق من نيران الفرن، وتحاول أن تخبئ زاوية فستانها المبقعة بصلصلة الطماطم الحمراء التي استحمت بها أثناء إعداد الصلصلة. يغمض عينيه، ويدعو سرًا قبل أن يأكل اللقمة الأولى، لأنه إن نجى هذه المرة من التسمم ستكون أعجوبة. يقف شعر ساعديه في اللحظة التي يضع فيها اللقمة على لسانه، تفاجئه حلاوة البرتقال المخلوطة مع دهن اللحم، طعم غريب يجعل من معدته ترقص وتهلهل، فهي على وشك أن تقوم بعرض بإخراج كل ما فيها. وإن استطاع ترويض معدته فلم يستطع مضغ قطعة اللحم في فمه، فهي لم تستوِ بعد، يعلكها ويعلكها ويعلكها حتى لم يعد قادرًا على تحريك فكه من التعب، يطلب من زوجته أن تحضر له كأسًا من الماء، ويستغل الفرصة ببصق لقمته في سلة النفايات قربه، وينزل بها جزءًا كبيرًا من صحنه. تعود زوجته لتؤنبه على سرعته في تناول الطعام، فالأكل السريع كما تقول الطريق الأول لأمراض المعدة والأمعاء. يشكرها على الطعام ويقبل جبهتها، ويقول لها بأنها مدعوة للغداء في الغد.

***

ذهبت للسوق مبكرًا، في ساعات الصباح الأولى، النسيم البارد اللطيف يحرك شعرها، وأصوات أبواق السيارات تعج بالمكان. ذهبت لتتبضع للمطبخ، تشتري الفواكه والخضار المستوردة، وتأخذ أعدادًا مهولة من صناديق المعكرونة، وأكياسًا من خبز التورتيلا، وأربعة حزم من البقدونس، ولم تنسَ أن تملأ السلة بالبهارات والمكسرات التي تنوي وضعها مع أطباقها التي ستعدها اليوم. سمعت بالصدفة أثناء مكالمة قام بها زوجها بأنه سيدعو زملاءه للعشاء، وقررت هي أن تفاجئه بإعداد العشاء قبل أن يطلب منها ذلك. عادت للمنزل بسرعة، يملأها الحماس، وتشعر بأن الابداع يتفجر من يديها.

احتارت ما بين وصفات جديدة أو قديمة مضمونة، همّت بإعداد وصفة البرتقال واللحم، لكنها تراجعت بعد أن فكرّت بأنها وصفة خاصة يجب أن تكون لزوجها فقط، نظرّا لأنه أعجب فيها بشدة آخر مرة. وقامت بإعداد أسياخ الدجاج المنقوعة بصلصلة البقدونس، وبعد أن انتهت من إعداد الدجاج، وبدأت بإعداد الصلصلة، شمّت رائحة غريبة لم تعتد عليها. تتبعتها بأنفها بأرجاء المطبخ، حتى وصلت إلى لوح التقطيع الذي قطعت به البقدونس. قربت أنفها للوح، شمته بقوة لدرجة طارت منه ورقة بقدونس لداخل أنفها. أخذت قليلًا من البقدونس المقطع وتذوقته، شهقت، وانهارت بالبكاء.

دخل زوجها المنزل ووجدها تجلس أمام التلفاز، تقلّب بلا اكتراث بين الأفلام والمسلسلات. اقترب منها ولاحظ انتفاخ وجهها، واحمرار عينيها، وقبل أن يسألها عن أي شيء انفجرت هي بالبكاء. سمعها تقول بين شهقاتها المتكررة:” أنا كنت أبغى أفاجئك … بس … بس … ما فيه وقت و … البقدونس طلع كزبرة!!!” وانفجرت مجددًا بالبكاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top