
لم يعد بإمكانه التحمل، يفرك رأسه في الأرض، في أجساد أبناءه، على لحاء الأشجار، يتقلب على الأرض، يطير الغبار مؤذيًا الجميع من حوله. وفي اللحظة التي يهدأ فيها رأسه عن الاشتعال يتمدد على الأرض، يرتاح، يأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تبدأ النوبة الأخرى من الحكة. لم يعرف طريقة واحدة توقفه عن الحكة، ولو لبضع ساعات، لا يعرف كيف ومتى أصابه هذا المرض الغريب. يتجنبه الجميع، كل اللبوات وكل الأشبال، يخافون العدوى، ويخافون انفعاله. غدى سريع الاشتعال، فعندما يُسأل عن أي شيء بسيط يغضب ويزأر، يستغرب منهم لما لا يفعلون شيئًا بأنفسهم ولو لمرة واحدة ويتركونه ليرتاح؟ وعندما يتركونه ويفعلون ما يتوجب عليهم فعله يغضب ويهجم ويضرب، ويقول:” ورا ما تسألوني قبل؟ طرطور أنا؟ قرد أنا؟” فكان القطيع لا يسلم منه بأي طريقة، حتى اكتشفت اللبوة الأم حلًا لمرضه العجيب.
عندما اقترحت اللبوة حلها للأسد، رفض رفضًا قاطعًا، حتى أنه نهض على قوائمه الأربع ليلقنها درسًا على قلة أدبها معه واستهزاءها به. قال:” آخر عمري أنا أصير نعامة؟” لكنه باللحظة التي وقف فيها أصابته حكة شديدة، جعلته ينهش رأسه وجسمه كاملًا، لم يعد يسمعها، لا يسمع سوى احتكاك مخالبه في جمجمته، قطرات دماء تسيل على وجهه، وصداع بدأ بتعذيبه، قال بيأس:” خلاص بس، وش كنتِ تقولين؟”
حفرت اللبوة حفرة صغيرة في التراب، قالت:” خلنا نجرب، حط جزء من راسك بالحفرة وشوف، إذا خفت الحكة كبّرنا الحفرة وخليناك تدخل راسك كله.” نظر لها الأسد نظرة ثاقبة، لا يرمش، يحاول معرفة نواياها الخفية، يرسل لها رسالة بنظراته بأنه مضطر وليست حركة منه لطلب الانتباه. يلتفت يمينًا ويسارًا، يراقب القطيع من حوله، بعض اللبوات ينظرن له باستغراب، والأشبال يقتربون منه أكثر فأكثر، يزأر بوجوههم ويعودون لأمهاتهم، تغض اللبوات من بصرهن، وتدّعي الأشبال انشغالها باللعب. وضع الأسد رأسه في التراب، شعر بأن رأسه وضع في داخل مكعب جليدي ضخم، مع أنه لم ير الجليد من قبل، بل يسمع به من وقت لآخر، لكنه عرف شعوره بوضعه لرأسه في حفرة التراب الباردة والرطبة. خرخر، سال اللعاب من فمه، ضحك ضحكة مجلجلة، رفع رأسه مسرعًا، انتثر التراب في كل مكان، طار أغلبه في وجه لبوته، وقبل أن تسأله أي شيء، قام بتكبير الحفرة، حفر وحفر حتى اتسعت لرأسه كاملًا. عاد لوضع رأسه فيها، وظل على تلك الحال طوال اليوم.
لم يمضِ يومين حتى أصبحت كل الأشبال تضع رؤوسها في التراب، وعندما تخرج اللبوات للصيد ترفض أشبالهن الخروج، متعللين بقائدهم الذي يمضي يومه كاملًا في التراب. تشتد المناوشات، وتعتبر بعض اللبوات تقليد أشبالها حركة لطيفة وستمضي بمرور الأيام، وتعتبر اللبوات الأخريات أن هذه الحركة تضعف من نمو الأشبال الذي يعتمد على الملاحظة والتجربة، فكن يسحبن أشبالهن من الرقاب ويرغمونهن على الوقوف والمشاهدة لعملية الصيد. ومع ذلك، اتفقت اللبوات على أن يتحملن هذا الطبع الجديد لزعيم القطيع؛ لأنه لم يعد يأكل أولًا من الصيد، وكان يرضى بما يقدمنه له لبواته. يسحبن قطعة اللحم حتى حفرته، يلمسنه من الجنب ويخرج رأسه من التراب، يطير التراب على لحمته ويغطيها كالبقسماط، يأكلها بدون أن يفتح عينيه بالكامل؛ لأن أشعة الشمس أصبحت مؤذية لعينيه التي اعتادت الظلام. أكلت اللبوات من الأفخاذ والصدور حتى بانت السمنة عليهن، وفسقت الأشبال حتى أنها صارت تنثر قطع اللحم للنسور والضباع.
لاحظت قطعان الحيوانات الأخرى غياب الأسد عن الحملات الهجومية التي تقوم بها اللبوات للصيد. وبعد مهمات تقصي سرية وليلية من حمار وحشي مراهق يبحث عن موته، رأى الأسد واضعًا رأسه في التراب، ولا يتحرك مهما لعب الأشبال بالقرب منه. عاد الحمار الوحشي راكضًا لقطيعه ونشر الخبر، الأسود أصيبت بالجنون.
انتشر الخبر سريعًا، طارت به الغربان لكل مكان، وضحكت عليه القرود وزادته من البهارات، قالت القرود بأنه ميت، وقالت بأنه سيتزوج من نعامة، وحتى أن الأمر وصل بهم إلى الاقتراب منه ليتأكدوا من الوضع بأنفسهم. ضحكوا عليه، تقافزوا فوق الأشجار مطلقين عليه الألقاب والنكات على مسمع من اللبوات. حتى أن بعض الأسود البالغة حديثًا من القطعان المجاورة جاءت للتحقق من زواجه من نعامة أولًا، وللتأكد من فرصها في الاستحواذ على هذا القطيع التائه ثانيًا. هددوا اللبوات بأن إن لم يعدل قائدهم عن ذلك التصرف المشين وسيء السمعة، سيردونه قتيلًا.
لم يجدي حديث اللبوات نفعًا معه، لم يخرج رأسه من التراب ليسمعهن بدقة، كانت راحته أهم من كل شيء آخر. وعندما أخبرنه بأنه سيموت إثر هجوم جماعي من أسود شابة، قال:” وينهم؟ خلوهم يجون، والله لأطرحهم واحد ورا الثاني، ما بقى الا هي.” ردت اللبوة:” بس حتى ولو، كل القطعان يتكلمون عننا” رد الأسد:” وش علينا حنا من باقي القطعان؟” ردت اللبوة بيأس:” بس أنت دايم تقول ما نبي أي حيوان يتكلم عننا” أخرج الأسد رأسه من التراب وزأر في وجوه اللبوات جميعهن، مشيرًا إلى انتهاء النقاش، انسحبت اللبوات يلطمن ويتحسرن.
فكرت اللبوة الأم كثيرًا، ولم يبقى في يدها إلا شيء واحد، جمعت اللبوات وأخبرتهن بخطتها، وافقن على مضض، وقالت لهن:” إنه يعصب ويهجم علينا بعد ما ننجح، أحسن من إنه يجينا بزر يتحكم فينا.” هززن رؤوسهن، ووزعن المهام. لم توجد مهام كثيرة لتتوزع، فالخطة كانت تثبيت الأسد بكل ما يستطعن من قوة. هجمن معًا، ثبتنه أرضًا، قفزت اللبوة الأم فوقه وقضمت شعره، قضمت وقطعت بمخالبها وسحبت حتى لم تتبقى شعره واحدة فوق رأسه. كومة شعر حمراء من الدم بجوار الأسد، تركنه وابتعدن بركضن، يتبعهن ويزأر، وفي منتصف هيجانه لم يشعر بالحكة، توقف، شعر بالهواء كما لم يشعر به من قبل، رجع لمكانه بخطوات هادئة، جلس وتأمل قطيعه الذي تهدلت جنوبه، يفكر في طريقة للانتقام.