أعني بالعكازات التجارب التي أظن أنني لن أعيش إلا بها. أشعر بأوقات كثيرة بحاجتي الشديدة لتجربة العديد من الأشياء لأستطيع مواكبة سير الجميع، كأن أجرب القيادة وأجيدها، فلا تكفيني المحاولة فقط، بل يتوجب علي الإلمام بكل زوايا التجربة وامتهانها. لا تكفيني قراءة رواية واحدة لغابرييل غارسيا ماركيز، بل أن أقرأ رواياته كلها، أشاهد الأفلام المستلهمة منها، وأقرأ آراء النقاد فيها. أن أتعلم السباحة، الطفو، الفراشة، سباحة الظهر والصدر. أن أزور كل المطاعم وأجرب كل الأطباق. أن أسافر لوحدي، مع عائلتي، مع أطفال وبدون. أن أسقط، أطير، أقفز، وكل هذا لأجل أن أعيش الحياة، وأن أتعكز بهذه التجارب لأكون قادرة لجذب المستمع، أثريه بمعلوماتي، وأشارك في كل حوار، وأكتب في كل مجال.
كثيرًا ما يغيب عن بالي قصر الحياة، وأن عيش هذه التجارب وغيرها يحتاج حيوات كثيرة، وحياة واحدة كهذه التي أعيشها لن تستطيع تلبية طلباتي كلها، بل الله يغنيها ويكثر خيرها على تحملي طيلة هذه السنوات. ويغيب عن بالي أيضًا بأن تلك العكازات التي أنشدها قد لا تلائمني أساسًا، فلكلٍ عكازته التي تم تفصيلها لطوله واحتياجه، فقد ما يناسب غيري من تجارب ليس بالضرورة مناسبًا لي، وأن قفزة البانجي التي أحلم بتجربتها طوال حياتي، قد أتسمر في مكاني برؤية حبلها وتنتهي أمنيتي بالمشاهدة فقط لا بخوضها، وقد تكون المشاهدة أكثر تأثيرًا من التأرجح بين الحياة والموت.
أتخيل نفسي دائمًا أقف بمحطة انتظار، ويمر القطار بدون أن يتوقف لي، أشتري التذكرة وأحجز مقعدًا، حتى أنني أقف فوق الكرسي، أقفز عند اقتراب القطار، وأرفع منديلًا، لكنه لا يتوقف أبدًا. لا يتوقف مهما صرخت، لا يتوقف حتى ببكائي اليائس بجانبه.
أحتفظ بهذا الاقتباس لجبران خليل جبران على مكتبي:”ليتني كنت بئرًا جافة والناس ترمي بي الحجارة فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حي. والظامئون يجتازونني ولا يستقون.”
في كل مرة يسيطر علي هذا الإحساس، انتشل منه بطريقة غامضة، غير مرتبة، وغير متوقعة، كأن يمر بي موقف لعابرين غرباء ينتشلني من أفكاري، إخوتي الصغار ما دون العاشرة يتفلسفون بطريقة عجيبة وغير مفهومة أحيانًا، لكنها توقظني وتأخذني بيدي للواقع، بعيدًا عن عالم المثالية الذي أحلم به. وأحيانًا جملة واحدة خلال حوار مع أي أحد، وكما حدث لي مع مريم حيث قالت بهذا الصدد:”طيب وش أحلى من ان الانسان يكتشف نفسه؟” أخبرها بقلقي الدائم بقلة خبرتي بهذه الحياة، وأنني متعطشة لعيش الكثير من التجارب التي أظن بأنها لن تحدث لي إطلاقًا، وأنني أكثر قلقًا ورهبة من ردة فعلي الذي سأقوم بها لأي حدث بسبب قلة خبرتي هذه. وفعلًا أيوجد أفضل من أن يكتشف الإنسان نفسه؟
لعّل أسوء صفة انتقلت لي من خوالي هي قلة الصبر، فألهث لأجرب، لا أطيق صبرًا لأجرب أي شيء، فقط لأزيد من خلفيتي عن كيفية إدارة هذه الحياة، وبمضي دقيقة واحدة بدون أن أستزيد فيها علمًا تكتمني، وأنسى تمامًا بأنني ممتلئة بالتجارب، وأملك العديد من المفاتيح لتجارب عديدة من الناس تغنيني عن خوضي أنا لها. أنسى أنني أمر بتجاربهم معهم وأعيشها وأشعر بها بإنصاتي لهم بكل جوارحي، أنسى أنني مجرد إنسان، وفتاة.
“نعم الحياة بطولة، ولكن دون ضجة. بطولة صغيرة يمارسها الانسان يوميًا من أجل أن يظل صادقًا وشريفًا”
هذا ما يقوله عبدالرحمن منيف في روايته الأشجار واغتيال مرزوق، لا تهم ضخامة تجربتي بقدر ما أستشعره من معنى بها. فقد تعطيني تجربة اللعب مع فيصل ذو الخمس سنوات ما لا تعطيني إياه تجربة مخالطة عشرة من أمثاله لأي سبب كان.
أعطي كثيرًا من وقتي لتأمل مجريات اليوم، وأحداثه، أتعمق بتحليلها واستيفاء الدروس منها، أمر بها بخيالي أكثر من مرة، وأعيشها بتكرار وسيناريوهات عديدة، يجعلني بغنى عن عيش مثيلاتها. وأقابل ما يحرجني منها بضحكات، فلا أتذكرها إلا بابتسامة، وأحيانًا بصرخة ندم من غبائي وقتها، إلا أنني أضحك عليها ومنها وهذا المهم، ألا تكون مصدرًا للخزي، بل للتحسن. ولعل هوسي هذا بعيش الحياة بكل أوجها يخف مع استيعابي لهذه الأفكار التي عصفت بي اليوم.
وحتى تعصف بي مريم بأفكار غيرها، إلى اللقاء يا أصدقاء.