لا أثر للهاتف في أي مكان، لا أسفل طاولة القهوة، ولا فوقها، ليس موجودًا على رف دورة المياه، ولا على مغاسلها، لا في الثلاجة ولا داخل علبة الأرز، لا أثر على الإطلاق. يستسلم عن البحث ويجلس على طرف سريره لاهثًا، يسكب له كأسًا من الماء بصعوبة ويشربه دفعة واحدة، يتأمل ذرات الغبار المتطايرة أمامه، تتصادم وتختفي وتسقط، كما هي حاله تمامًا، يشعر بكل شيء يدور ويدور في حلقات، هو وحياته والأشياء من حوله، يتصادم معها، يسقط، تتحطم الأشياء، يعود واقفًا، ويحاول أن يرمم ما أفسدته الحياة.
يلعن الهاتف ومن اخترع الهاتف، يدعي عدم احتياجه له، وأنه لن يبحث عنه أبدًا، يقف منتصبًا للحظات، يتجه إلى المطبخ، يفتح الثلاجة، يتأمل العلب الزجاجية المتنوعة الموضوعة في باب الثلاجة، علبة جبن سائل تحتوي زعترًا، ومرطبان عسل يحوي الحبة السوداء، ومربى بطيخ بعلبة حديدية، وغيرها الكثير من العلب التي تحوي غير ما صنعت له، ينظر إليها محتارًا، يأخذ المربى ويضعه على طاولة المطبخ، ويخرج قطعة واحدة من الخبز ويسخّنها على نار الفرن. يضع إبريق الشاي على النار وينتظره ليغلي، يضع سكرًا وينتظر لثواني معدودة متأملًا لوحة الفواكة المعلقة على الجدار أمامه، يرفع الإبريق عن النار ويجلس ليتناول فطوره، ينتهي الفطور بتناول أقراص بيضاء دائرية، ويعود مجددًا لغرفته، وقبل أن يصلها يبحث في الصالة عن هاتفه، كمحاولة أخيرة، لكن لا فائدة.
يقوم بمشاهدة التلفاز، لا جديد، حرب، جثث، وغلاء في الأسعار، يضع برنامج مسابقات عائلي، يحاول تخمين الإجابات، ويفشل في كل مرة، يقوم بتغيير المحطة كآخر محاولة للاستعانة بالتلفاز لسد فراغ الهاتف. يطفئه ويتجه لباب منزله الخارجي، يجلس في الشارع على كرسي خشبي تحت شجرته أمام الباب، يتأمل المارة، يشاهد معركة قطط على ساق دجاجة، ويتمنى لو كان هاتفه معه ليتقط صوره.
يمر جاره ليسلم عليه، يصطنع ابتسامة ويعدل من جلسته على الكرسي، يروي قصصًا عن عائلته لا يراها في عقله، ولم يسمعها من خلال أذنه، يتحدث عن حفيده الذي أكل الصابون بالأمس، وعن ابنته التي تخرجت حديثًا، وعن ابنه الذي أصبح شرطيًا، يبتسم الجار ويدعو له بطول العمر، يطلب منه بغضب أن يستغفر، ويتراجع عن دعوته، يضحك الجار ويغادره.
يدخل لمنزله عند غروب الشمس، يبحث عن هاتفه أمام المدخل، وعند الشجرة الصناعية الموجودة في ممر المنزل، يضرب الشجرة بعصاه، كما لو كانت السبب في ضياع الهاتف. يدخل المطبخ مجددًا لإعداد العشاء، خبز وفول مجمد يقوم بتسخينه على الفرن. يتناول عشاءه بصمت، يفكر بابنته التي ستتصل لا محالة، لكنه لن يكون قادرًا على الرد عليها، أو زملاء عمله السابقين الذين سيتصلون ويدعونه لتناول العشاء معهم. يهز رأسه بضيق، ينتهي من تناول عشاءه بصعوبة بسبب الأفكار التي سيطرت عليه، يغسل الكوب والطبق ويعود لغرفته.
يغلق المصابيح، يستلقي على فراشه، يتغطى بالبطانية الصوف الخضراء، وتنساب يده بحركة روتينية لأسفل الوسادة، يخرج هاتفه، يتصفح سجل المكالمات، لا توجد أي مكالمة، يشاهد مقطعين قصيرين قبل أن يسيطر عليه النوم مجددًا ويدخل هاتفه تحت الوسادة مجددًا.