أكتب هذه الأسطر بعد تصرف غريب غير واعٍ صدر مني، قمت بإحضار الكتاب الذي سأكتب عنه، تصفحته، قمت بمخطط ذهني لما سأكتب، نهضت، نظّفت المكتب، أشعلت شمعة، قمت بتشغيل معزوفة هادئة، جلست، عدّلت من وضعيتي وبدأت الكتابة. لما؟ لم أقم بأي من هذه العادات طوال التحدي، فكل ما كتبته حتى هذه اللحظة كان باستعجال وبدون تخطيط، لما الآن أحرص على خلق الجو؟ لم أتوقع بأن كتابي المفضل يملك هذا التأثير على نفسي حتى قمت بكل هذا.
في أدب الصداقة، عبدالرحمن منيف ومروان قصّاب باشي
في كل مرة أتصفح فيها الكتاب تقذف بي مشاعري بكل صوب، مجرد التصفح يجعلني أغرق في دموعي، ولم يجعلني أي شيء في هذه الحياة حساسة إلى هذه الدرجة كهذا الكتاب. أمتلك في قلبي مكانة خاصة لفن الكتابة ولفن الرسم، استمتع بالغرق فيهما، ولا أطلب إنقاذًا. وفي هذا الكتاب اجتمعت الكتابة بالرسم، أفكار حية، ومشاعر حقيقية. شاهدت مقابلات لكلا الفنانين لكنني لم أجد تلك المقابلات مفيدة لمعرفتهم حق المعرفة حتى قرأت رسائلهم.
كثيرًا ما يغيب عن بالي بأن الفنانين بشر حقيقيين كما نحن كذلك، ولشدة إعجابي ببعض الأعمال، أجدني أفكر عما إذا كان ما قرأته أو سمعته ينم عن عمل بشري أم غير ذلك؟ وأعرّف هذه الحالة بالإبداع، والإبداع يولّد الأعمال الخالدة، والأعمال الخالدة تنفي صفة البشرية عن صانعيها. وهذا الكتاب الدليل الحي على أن كاتب مدن الملح كائن بشري، له يدان وقدمان ويأكل كما نأكل، ويشعر كما نشعر، يكتئب ويحزن ويضحك ويحلم.
يبحث عبدالرحمن منيف في رسائله عن الصورة، عن اللون واللوحة، يشتكي من الكلمات، الكلمات التي صنعته، تعذبّه، يريد اللجوء إلى الرسم كطريقه أخرى ليرخي حبل الكلمات حول عنقه. بينما مروان يبحث عن الكلمة، يتعجب من قوتها، يتعجب من إرادة البعض بجمع الكلمة واللوحة، يعذبه بياض اللوحة وسطحها الفارغ، يلجأ إلى الكلمات التي تنساب منه أكثر من الألوان لملئ البياض، يرسم ويكتب ويمسح كطريقة للشعور بالحياة.
السحر بهذا الكتاب يكمن بواقعيته، فهي رسائل حقيقية بين صديقين، لم تكتب لأجل الكتاب، ولكن لأجلهما. فيها محاولات الفنانين لخلق أعمالهم، مناجاة ومناصحه وفرح وحزن، والكثير والكثير من الأفكار، الأفكار التي تشكل لهم نقطة البداية. الرسائل فيها الحياة، تأخر البريد، تأخر الكتابة، السفر، المشاعر، التواريخ، كل رسالة تحمل حياتها الخاصة وتسجّل تاريخها الخاص، لا يغلب عليها ذكر سفاسف الأمور وإنما ما يراد بحق أن يقال، وهذا ما يكسب الرسائل الورقية قيمتها، تكتب لغرض محدد وتعطيه الرسالة وقته ومكانه في الزمن.
أظنني قلتها مسبقًا، وسأعيدها مجددًا، هذا الكتاب نقطة انطلاقي بالكتابة، بفضل الله ثم بفضل هذا الكتاب قررت نشر كتابي الأول، وقررت إنشاء المدونة، وحاولت الرسم، وكتبت الرسائل الورقية، وخططت وفكرت لحياتي. أنقذني هذا الكتاب من لحظات اكتئاب كثيرة، وأمتعني، وعرفني على كتب وشخصيات، شجعني، وجعلني أحلم، ولا يوجد ما هو أثمن من الأحلام.
“لماذا يخجل الانسان من حماقاته؟ لماذا يصر على على أن يبقى لابسًا ربطة العنق ومبتسمًا وكأن لا هم لا لديه سوى التقاط صورة فوتوغرافية؟”
“اللوحة غير المكتملة لوحة كاملة في كثير من الأحيان، لأنها طريقة لاستفزاز الخيال، لإشراك الآخر في أن يعمل شيئًا من أجمل اكتمالها.”
يقول عبدالرحمن لمروان:
“الكلمة زلقة، والموسيقا هاربة، والمسرح لحظة، ولذلك فإن الإنسان يثبت نفسه من خلال سحر الأشكال والألوان، ولقد قبضت على هذه الخاصية، واستطعت من خلالها قول الكثير، والذي لا يمكن أن يتخفى ويغيب. إنه ضد الزمن بمعنى ما، أي له القابلية على الثبات والاستمرار، ومن هنا تبرز الأهمية والضرورة والمتعة والألم.”
“إذا تمكن فرد من تقديم شيء جديد في حقبة ما أو أكثر، فما علينا إلا الاحترام والتقدير وما عدا هذا فهو مسألة شخصية ذاتية ويجب ألا نكون كالكلاب المسعورة التائهة التي تنتظر السقوط لتشبع تفاهتها.”
*
في لحظة ما، لم أستطع مفارقة الكتاب، ونمت بجانبه، غطيته بمفرشي كما أغطي ابني، وتمنيت له ليلة سعيدة.
أفكر دائمًا بكتاب المرحلة القادمة، وهل سأنام بجانبه أيضًا؟