في مجلس مغطى بقطع سجاد حمراء متنوعة، تفوح منها رائحة السنوات، معمّرة ومغبرة، يجلس العم الأكبر في وسط المجلس على الأرض، بجانبه من اليمين واليسار إخوته وأبناؤهم، يدور القهوجي بفناجين القهوة. يكثر العم من الشكوى، أقرب إلى مجلس للشكاوي منه إلى اجتماع عائلي، يشتكي من الحراثات الدخيلة، وأنها ليست إلا خطة لإفلاس المزارعين والسيطرة على إنتاجهم، ويدّعم نظريته هذه بحرّاثة جاره، تعطلت بعد أسبوع فقط من عملها، ولم يجد من يشتريها أو يصلحها، ولا خيار لديه إلا لشراء جديدة. يشتكي من قلة الماء، ومن ضعف السوق واليد العاملة. تنقطع شكواه التي لم يتخيل أنها ستتوقف بسؤال من ابن أخيه:”ما تبي معاون يا عم؟” قيلت كمزحة، ولكنها انقلبت لواقع.
*
في طريقه للمزرعة يشاهد الحراثات تعمل بلا توقف في المزارع المجاورة، ينشغل العمّال بالرعي والحصاد بينما تقوم الحراثة بأهم عملية بإتقان. يفكر بالعمل الذي سيعطيه إياه عمه، ويتمنى بألا يتضمن الغنم، أو الدجاج. يغضبه غباء الغنم وأعينهم التي تؤكد غباءهم، ورائحتهم التي تلازم الجسد حتى تتحول إلى رائحته الطبيعية، فينسى المرء كونه بشريًا، ويفكر عما إذا كان تحول إلى التيس الذي يكرهه. وأما بالنسبة إلى الدجاج، فهو يخاف منه، ويمثل عكس ذلك خوفًا من تندر أبناء عمومته، ترعبه قفزاتهم المفاجئة، ويرعبه نقيقهم الذي يصم الآذان، ويخشى الموت إثر نقرات الديك كما مات طفل جارهم.
يصل للمزرعة، يستقبله عمه بحفاوة، يمد له المسحاة، ويقول:”احرث الأرض ووازنها أنت والعيال بزاوية المزرعة الشمالية، نبي نزرع البرسيم بكرة”. يتجه لشمال المزرعة حيث يتواجد الشابين، اثنان وهو ثالثهما، شابان يرتديان ثيابًا مهترئة، يربطان شمغهما على خصورهما، واحد يتولى قيادة الثور والآخر يساعد بمسحاة شبيهه بالتي أعطاها له عمه. اتضح له بعد حوار دار خلال تقليب التربة بأنهم إخوة زوجة عمه، يعملان لدى عمه مقابل مبلغ بسيط، تستمر المحادثات ويستمر الحرث، حتى أصبح غير قادر على المشي، ركبتاه تهتز ويداه متصلبتان.
يستغل في اليوم التالي مكانته لدى عمه، ويطلبه عملًا غير الحراثة والبذر، معللًا ذلك بأنه يريد أن يفيد عمه بقدر الإمكان، أن يبذل جهده في زوايا عديدة من المزرعة. يستجيب عمه لطلبه ويقول:”والله ما تقصر وأنا عمك، أجل عليك بتعليف الغنم وتسريحهن” يستحي أن يرفض أمرًا طلبه هو بلسانه، فيبتسم ويعد عمه بالجد والاجتهاد.
يدخل شبك الغنم، تهاجمه الرائحة أولًا، يصيبه الدوار، عجلات سيارات على الأرض تحوي طعامًا، وسجادات قديمة وضعت كسقف، والكثير والكثير من الأعين التي لا يمكن التكهن بما تراقب، فكما لو كانت كل الأغنام تعاني الحول. يحاول المشي للداخل لكنهم يحاصرونه، تدخل إحداهن رأسها داخل جيبه، يتراجع ويضرب رأسها، يتراجعن، وما أن يمشي خطوتين حتى يعدن لتفحصه. يشاهد تيسًا أسودًا ضخمًا أكبر منه بمرتين مربوطًا بالشبك، والظاهر بأن الشبك مربوط بالتيس، يحرّك التيس رأسه كما لو كان يدعو الزائر ليلقي التحية له، أن يخرج سيفًا ويضعه على على أكتاف الزائر كتحية وتقدير من الحاكم في داخل الشبك على الزوار من خارجه.
بعد أيام من تسريح الغنم والمشي معهن لأميال، يتأمل حاله، ويفكر بمدى حماقته وطول لسانه الذي لا يؤدي نفعًا، فبدلًا من الغنم الآن لكان بائعًا في السوق، يشتري ويبيع مع والده، يتعلم التجارة التي لطالما تمنى أن يتقنها. يراقب ظهر عمه الذي بدأ بالإحدداب، يرفض عمه الحرّاثة والبذّارة والحصّادة وحتى الرشّاش! يردد عمه بأن شراء هذه الآلات لن يؤدي إلا إلى ارتخاء الناس عن الزراعة، وستطير البركة عن الأوقات والثمرات والجهد، ستسيطر عليهم حسابات الأرقام وأطنان البيع والشراء، لن يجد الأبناء فرصًا للعمل، ستحل الآلة مكانهم، وستنتشر العطالة، ويحلف عمه بألا يتعطل الناس ما دام رأسه يشم الهواء كما يقول دائمًا، سيجد الجميع فرصة للعمل لديه، وسيجد للجميع مزرعة للعمل فيها، وسيري الكل فساد الآلة.
وبينما تتحارب هذه الأفكار في رأسه، يشعر بالهواء البارد المنعش، يشعر بالراحة والانتعاش فجأة، كما لو كان بلا هموم أو حتى بلا ملابس، يلقي ببصره للأسفل، يرى أمامه تيسًا صغيرًا بنيًا يمضغ قطعة بيضاء، ولم تكن تلك القطعة سوى رقعة سرواله الأمامية.