اليوم الأربعاء، بداية إجازة الربيع، وهذا يعني أن أتبادل أنا ووالدتي الأماكن، أن أقوم ببيع النقابات والطرح، بينما تقوم هي برعاية شؤون المنزل. أصل من المدرسة بعد مسافة سير غير بسيطة، أصب عرقًا، وما إن أدخل المنزل حتى تتم مناداتي من المطبخ، أركض للمساعدة من إحضار للصحون إلى وضع السفرة وينتهي دوري بتقديم الغداء للجميع على الأرض. أحاول مسرعة الركض لتبديل ملابسي، وأعود لأجد الصحون نصف فارغة، إلا أن والدي يحتفظ لي بساق الدجاجة التي أفضلها، ولعل هذا ما يشعرني بالشبع بالرغم من نفاذ الأرز.
أنتهي من غسيل الصحون أنا وأخواتي الأصغر مني سنًا، أستلقي على سريري لدقائق معدودة قبل صلاة العصر، وقت صلاة العصر هو ميعادي للذهاب إلى السوق. أصلي العصر وأرتدي عبائتي، يقود أخي سيارته المعجونة بفعل الاصدامات بعجالة، وكأنه يخطط لعجنها أكثر. نصل إلى مقدمة السوق، ولدى البوابة تنهمر الجموع، الكثير من الرؤوس السوداء، والمشي المترنح، والأصوات العالية، مهما حاولت لأعتاد على هذه الطقوس أفشل بذلك. اسمع اسمي وسط الأفواج وأرتعب لتمييزهم لشكلي بالرغم من تغطيتي حتى لعيوني. أنزل من السيارة وأنضم إليهم، أكاد لا أرى شيئًا، ولا أشم غير العرق ودهن العود الثقيل، أمشي معهم لكيلا يتم دهسي. ثواني مرت كدقائق لم أشعر بها، أجدني بمنتصف السوق، المحلات والأكشاك على يميني ويساري، أصبحت وحدي، أحاول استيعاب الوضع، لقد تفرقت البائعات قبل الوصول للوسط، أبحث عن الزقاق المؤدي إلى الكشك الخاص بنا، أجده بصعوبة بسبب تغير بعض التفاصيل عن آخر مرة زرت بها السوق، فكشك الذرة الموجود أمام بوابة السوق تغير مكانه، ومحل القدور تحول لمحل لبيع الأحذية، ومحل الجلابيات قام بإضافة بعض الفساتين لتشكيلته.
أصل لزاوية البيع الخاصة بنا، أجد أم مسفر قد سبقتني لطاولتها عن يميني، ألقي السلام وتسألني عن والدتي، أخبرها ما دربتني والدتي على قوله:”أمي والله ودها تجي بس حلفت عليها ترتاح بالبيت اليوم وأجي أنا بدالها أشوفكم وأسلم عليكم.” تبستم أم مسفر وترد بعبارات نجحت بفك معانيها وآخرى ضيعتني أكثر. تمد لي أم مسفر فنجان قهوة وتمرًا، أشرب فنجاني بينما أفك الكيس البلاستيكي الأزرق عن البضاعة وأقوم بترتيبها على الطاولة. أضع النقابات بالزري والنقوش الذهبية بالمقدمة، وتحتها النقابات السادة، وأقوم بتجهيز الفكة والأكياس البلاستيكية لوضع مشرتيات الزبائن.
تلتفت إلي أم مسفر وتقول:”ترا محدن شايفك، ألبسي حدا هالنقابات ولا البراقع وناظري العالم، ما نيب قايلتن لأمك” وأقوم بما أمرتني بفعله، ولعل هذا ما أخبرتني أمي به، فلقد قالت بأنني يجب أن أستمع لكل البياعات، وأن أقوم بأي شيء يطلبنه مني، وأظنني إن لم أقم بما يأمرن به ستتم التضحية بي أنا ووالدتي كما أرى بأفلام القراصنة بالتلفاز، أن ندفع أنا ووالدتي ببطئ إلى حافة الخشبة، ونسقط بين الأمواج بغير حول منا ولا قوة، أن نطرد من السوق بدون عودة.
تقف سيارة جمس بنية في منتصف السوق، أشبه بصهريج ماء، ينهمر منها الأطفال والركاب بدون توقف، حتى أن أم مسفر بجانبي التي لا تتوقف عن الكلام سكتت من هول المنظر، عدد مهول من البشر ينتشر كنمل هارب من الماء، وأتمنى بأن ينال نصيبنا بعضًا منهم. ولعل ما وصلني من ذلك الفيضان سائق السيارة وزوجته، ترتدي ثوبًا أحمرًا طويلًا يخرج من تحت عباءتها، ممسكة بطرف عبائتها السفلي تحت ابطها لكيلا تكنس الغبار من وراءها، غير عابئة بالرجال من حولها. تمسك كل النقابات والبراقع بيدها وتقلبها، ينظر لي زوجها مهددًا إياي بفتح فمي، مشيرًا بحركته تلك أن تقليبها للبضاعة حق من حقوقها. تمسك برقعًا واسعًا مطرزًا بالذهبي، يقول زوجها:”لا لا لا شوفي الثاني والله إنه أحسن ويملّح عيونك” تبتسم وتأخذ الذي أشار إليه، تضعه أمامي وتبادلني النظرات بدون أن ترمش، أضع برقعها سريعًا في كيس وأعطيها إياه، يناولني زوجها العشرة واضعًا إياها على الطاولة بدلًا من تسليمي إياها يدًا بيدًا، تحول زوجته نظراتها مني إليه، تبتسم ويغادرونني سريعًا بهمس بينهما.
تلتفت إلي أم مسفر وهي تحسب الباقي لزبونة لديها:”تبين تروحين روحي، محدن جاي الحين” وبذلك انتهزت الفرصة وانطلقت للبحث عن بائع الصيصان الملونة. على بعد محلين أجد دائرة من الأطفال على الأرض، متحلقين على صوصين صغيرين أزرقين، وقفت أشاهد الصيصان وقلبي يخفق لامتلاك واحد. أطلت الوقوف والابتسام إلى أن طردني زعيم المجموعة والذي يبدو لي بأنه من اشترى الصوصين. قال بلعاب يتطاير من أسنانه المتسوسة:”وش تبين واقفة فوقنا، روحي اشتري لك واحد هذولي حقاتي.” قالها ولم يعلم أنني لم أبع سوى نقاب واحد. استفسرت عن مكان بيعها والذي كان بأقصى السوق، عند نهاية الشارع، قمت بشد نقابي الذي ارتديه للمرة الأولى وأحاول تعديله ليظهر عيني اليسرى أيضًا بدلًا من كوني عوراء.
أمشي وكل ما أفكر فيه الصيصان الملونة، إلا أن ضجة عن يميني أثارتني، سيارة كهربائية تتشقلب! والعديد من الأطفال يصرخون ويضحكون إثر مشاهدتها، والقليل منهم يبكي لعدم قدرته على إقناع والديه بشراءها. وما إن تخطيت مهرجان السيارات المتشقلبة انقطع نفسي بسبب البخور، صف كامل من طاولات بيع البخور والعود، مباخر عملاقة وأخرى صغيرة بحجم الفنجان. يناديني بائع بخور قائلًا:”تفضلي يا خالة، أحسن عود بالسوق” ارتجفت بقوله خالة، فأنا لم أكن مخفية كما كنت أتوقع، الجميع ينظرون إلي، إلى نقابي، إلى من تركت طاولتها لتشاهد حيوانات صغيرة يائسة مصبوغة بألوان ستقتلها خلال يومين. ركضت من أمامهم، حاولت اتباع التوجيهات التي أخبرني بها الولد، إلا أنني نسيتها كلها بسبب كلمة الخالة، تخللت عظامه. أما الآن، كيف لي أن أعود؟
أتذكر السيارات لكن لا أثر لها، الشارع يمتد ويمتد ويبدو بلا نهاية، تمر السيارات بجانبي وأراها كلها كسيارة أخي، الجميع يبدون لي كوالدي، وتلك المرأة الجالسة تبدو كوالدتي. أمشي بدون وجهة، أشعر بالجميع ينظر إلي، والفتيات على الرصيف يضحكن علي لأنني لا أتذكر مكان طاولتي، رائحة القهوة التي تشرب منها مجموعة النسوة أمامي تشبه رائحة قهوة منزلنا، هل تجلس والدتي معهن يا ترى؟ أشعر بإعياء شديد، لم أشرب سوى فنجان القهوة ذاك من أم مسفر، تنقطع أنفاسي، أحاول سحبها من تحت النقاب لكن فعلي لذلك يجلب الأنظار أكثر، والدتي ستقتلني بالتأكيد. أمشي وكأنني أضع قدرًا من الأرز فوق رأسي، وزني يزداد وأشعر باقترابي من الأرض أكثر فأكثر، أنصهر، وأتواسى مع الأرض.
أستيقظ بدون غطاء على وجهي، والكثير من الأوجه المخفية تحت النقابات تراقبني، ما إن رفعت رأسي حتى غرقت بالماء، تسقيني امرأة كأسًا من باردًا من الماء، والأخرى ترشني به، والثانية تمسح على شعري. اسمي يتردد بينهن، وأسمع همسات كثيرة باسم والدتي، أنهض وأجلس بظهري على الجدار، تدس إحداهن تمرة رطبة في فمي، فأتجرعها بصمت، لا أعلم أين أنا، أو كيف وصلت إلى هنا، لكنني أميز الطفل ذو الصيصان يراقبني من وراء الستار النسائي الذي يحيطني. تقترب أم مسفر وتسلّم على الجميع، تشكرهم وتختلق قصة إصابتي بنزلة برد ازدادت إثر الاجهاد. تنهمر الكثير من النصائح فوق رأسي والعلاجات التي يجب علي التهامها. أعدهم بتنفيذي لكل توصياتهم وأنهض مع أم مسفر لتعيدني للطاولة.
باقترابنا للطاولة، أشاهد ظهر زبون، وباقترابنا لم يكن ذلك الزبون سوى والدتي.