أظن بأن شاشة تلفازنا هي الشاشة الأكثر وحدة في العالم، لا يجتمع أمامها سوى ثلاثة أشخاص على الأكثر بشكل يومي، وكثيرًا ما يتم نسيانها ويترك تنظيفها أثناء حملات التنظيف التي تقوم بها والدتي، ليس لسبب معين وإنما لاعتيادنا على وجودها فأصبحت جزءًا من الجدار، لا ننتبه لها إلا حينما تتوقف عن العمل إثر الماء الذي يصبه عليها أخي الأصغر بحجة تنظيفها، ولو كانت تستطيع الحديث، لقالت بأن يوم عرفة هو يومها المفضل، لأنه اليوم الوحيد الذي تجتمع به العائلة كاملة أمامها، ولا أعني بالعائلة إخوتي فقط، وإنما زوجات عمي وبناتهن أيضًا، نجتمع أمامها، ونسكب عليها بعضًا من الود، ونذكرها بوظيفتها التي صنعت من أجلها، أن تجمعنا معًا أمامها لساعات.
في يوم عرفة من كل سنة، تتسمر آمال زوجة عمي ووالدتي أمام الشاشة من الظهر حتى العشاء، وتتعاقب الوفود حولهن، وفي كل سنة، تشرح لي خالتي آمال كل خطوة يقوم بها الحجاج، وفي كل سنة أنسى ما قالته لي المرة الماضية، فتعيد الشرح بلا كلل أو ملل، ولأنها كانت من الحجاج في السنوات التي كان بها الحج باردًا، تخبرنا عن حجتها التي كانت تحت المطر، وبذلك يأخذنا الحديث إلى حوار مطوّل عن رغبتي بالحج شتاءً ونصحها لي بأفضلية الحج ربيعًا، وكأن الأمر برمته متروك لرغبتي فقط.
تجمعنا الشاشة لرؤية مساعدات الجنود للحجاج ومدى تفانيهم في عملهم، فتغمرنا دموع الشكر ونبكي امتنانًا، وما أن نمسح دموعنا حتى نبكي لرؤية كبار السن، وما أن نهدأ حتى نبكي مجددًا أثناء الدعاء، فتستمر فترات البكاء المتقطعة طوال اليوم، يتخللها لحظات نتأمل بها الشاشة بصمت. وفي اللحظة التي نستعيد بها رباطة جأشنا حتى نسمع سيارة والدي الهايلوكس حاملة معها الأضاحي، فنترك الشاشة لوِحدَتها ونراقب الأضحيات داخل الشبك في زاوية فناء المنزل.
عند انفصالنا عن الشاشة في المساء، سرعان ما يعيدنا الصوت المرتفع لها، وبالتأكيد فيلم الرسالة الذي سيجعل والدتي ترفع للصوت حتى يتعدى حده الأقصى. تتنافس القنوات على عرضه، وكثيرًا ما فاتني، أو بالأصح لم أشاهده أبدًا، على كثرة المرات التي تدعوني بها والدتي وخالتي آمال لمشاهدته فلم تتسن لي مشاهدته قط، تنقطع مشاهدتي له بنداء جدتي، لتضع لي الحناء في يدي، فهي تقول دائمًا:”حرام يجي العيد ويدينكم ما فيها حناء” وبسبب سطوة فن الأظافر وتزيينها انقطعن بنات عمومتي عن مشاركة جدتي في عادتها السنوية، ولم يتبقى سواي أضع الحناء في يدي.
تعود الشاشة لوحدتها المعهودة قرابة منتصف الليل، تعود خالتي آمال وبناتها لمنزلهن ليتجهزن لحضور العيد صباحًا، بينما أقوم أنا بغسل يداي عن الحناء، ويعتمد مكان غسل الحناء على مزاج والدتي، فإن كانت راضية عني يومها ستجعلني أغسله داخل المنزل وفي أي مغسلة، وإن كانت غاضبة لسبب من الأسباب ستجعلني أغسله في الفناء، باستخدام خرطوم المياه المستخدم في ري الزرع.
نعطي الشاشة فترة راحة حتى ساعات الصباح الأولى لليوم العاشر، ونعود لنتسمر أمامها لنشاهد الحجاج مجددًا، نستمع لخطبة الحرم، ونتجهز لأولى الأضحيات. نجلس أمام الشاشة نقصد الاستماع للخطبة، إلا أن القهوة والشوكلاته تمنعاننا عن ذلك، فنبدأ بالحديث والضحك، ونتوقف فجأة للاستماع لبعض كلمات الخطبة، لكننا نعود سريعًا للحديث، وهكذا دواليك حتى نترك الشاشة نهائيًا وندخل المطبخ لنبدأ العمل.
لم يتغير يوم عرفة أبدًا، منذ ولادتي حتى هذه اللحظة، يبدأ بتجمعنا بالصالة إثر وصول الجميع من الرياض إلى منزلنا، أو إلى الديرة كما تتم الإشارة إلينا من قبل بنات عمومتي، يفطر الجميع بوجبة باردة إثر تأخر المطعم، وبعد الشعور بالتخمة نتقاتل لتفوز المنتصرة بتفادي التنظيف بعد الفطور. ندرس عن الحج أثناء مشاهدة التلفاز ونضحك باسترجاع ذكرياتنا، نتفق على الحضور صباحًا في يوم العيد ولا يحضر سواي أنا وأختي منيرة وخالتي آمال. تطلب والدتي من الجميع أن يدعو لها بأن تحج، ويدعو الجميع بأن تحج معي أنا وزوجي المستقبلي، ولا أعلم لما يربطون مصير والدتي بي أنا وزوجي الذي لم يطرق بابنا حتى هذه اللحظة.
تعود شاشة منزلنا إلى وحدتها بعد انتهاء العيد مباشرة، وتترقب يوم عرفة القادم على أحر من الجمر.