في نهاية الشارع وعلى بعد خمسة منازل من منزلنا يقع بيت أم راشد، لديها بابان، باب على الشارع الرئيسي وباب على الشارع الفرعي، يدخل الزوار من الباب الفرعي ويخرجون من الباب الرئيسي. لا يعلم أحد إن كانت متزوجة، تقول الإشاعات أنها مطلقة وسبب طلاقها يعود إلى أنها عضت زوجها في لحظة غضب. ويقول بعضهم أنها يتيمة وخرجت من السجن قبل سنوات بعد إلقاء القبض عليها تمارس التسول عند أبواب الأسواق. ولكنني لا أظن ذلك، أشعر بأنها مظلومة، وتلك الإشعاعات حرمتها من الحياة، لا يدعوها أحد إلى الاجتماعات الأسبوعية التي تقوم بها نسوة الحي، ولا يعطينها من لحم الأضاحي ولا يسألنها بعضًا من الطماطم. منبوذة كبيتها الرمادي في نهاية الشارع، كل شيء حولها يوحي بالوحدة، حتى شجرتها الوحيدة التي وضعتها أمام بابها الجانبي لم تثمر قط، ولم يزدد طولها أبدًا. ولكن بالرغم من هذا كله، فلديها زيارات عديدة، وأغلبها أو جميعها من خارج الحي، نسوة وأحيانًا رجال، أراقب منزلها من سطح منزلنا بعد خروج والدي عصرًا، وبعد أن أخبرت والدتي بعد مدة تحريات ليست بالقصيرة نهرتني قائلة:”وش عليتس من الناس أنتِ! قولي الله يعافيها ولا يبلانا ولا عاد تعودينها تراقبين الجيران عيب.” وأما عن خطتي، فبالتأكيد لم أخبرها عنها.
تبقى خمسة أيام على دورية الجيران الأسبوعية، ستذهب والدتي بالتأكيد، وبخروجها سأخرج متجهة لمنزل أم راشد، لن أدخل لكنني سأحاول استراق النظر من الباب الذي لا يغلق أبدًا، أريد أن أتأكد من الإشاعات وما إذا كان صحيحًا ما تقوله والدتي.
تضع والدتي العباءة على رأسها، ويتقاطر مني العرق، وكان لبسها للعباية بطيئًا جدًا هذه المرة، استغرق لبسها ساعات وأيام، وفكرت بأن اليوم سينتهي وهي لم تضع العباءة فوق رأسها بعد. بعد انتهاءها من لبس عباءتها وعندما وصلت للباب الحديدي الخارجي أخيرًا، عادت أدراجها. قالت وهي ترفع الغطاء عن وجهها:”اسمعي يمكن أطول شوي، انتبهي لأخوانتس وخليهم يحلون واجباتهم.” لا أتذكر في الحقيقة ما قلته لها لكنني أتذكر بأنها توقفت تحدجني بعينيها لثوان. خرجت من الباب أخيرًا، وصعدت أنا للسطح لأتأكد من وصولها لمنزل أم خلف، وما إن رأيتها تدخل حتى لبست عباءتي بدوري.
ركضت، وركضت، وركضت، الشارع أصبح أطول من المعتاد، والنساء كلهن يشبهن والدتي. باقترابي من منزل أم راشد تتوقف سيارة أمامه، أمشي ببطء لكيلا تلاحظني المرأة التي تخرج منها، تدخل المنزل، أعد حتى العشرة وأدخل بعدها. يستقبلني الكثير من الغبار، وخرطوم مياه أحمر طويل مرمي على الأرض، وكراتين تمر مصفوفة فوق بعضها البعض نهاية الفناء، يشبه منزلنا بعض الشيء، إلا أن الاختلاف كان بالهدوء الذي يحيط بالمكان، لا أثر لأم راشد التي لا أعرف وجهها أصلًا، ولا أثر للمرأة التي دخلت قبل قليل. أستمع لصوتي الداخلي البغيض، وتقودني قدماي لمدخل المنزل.
المفاجأة أرغمتني على حبس أنفاسي، حتى أنني شككت بقدرتي على الرؤية، أثاث منزلي فخم للغاية، وصالة واسعة تعكس أرضيتها الأضواء مما جعلني أفقد توازني لوهلة، ولكن لا أحد، ولا صوت، لم أجد الشجاعة الكافية للدخول، توقفت أمام الباب أحاول استيعاب المنظر أمامي، ألا أن وجهًا أطل أمامي، صرخت، ضحكت المرأة، لم أستطع الحراك، جلست القرفصاء، ناولتني يدها وقالت:”أول مرة تجين؟ لا تخافين أم راشد ما عندها ألا زايرة وحدة وما راح تطول تفضلي.” ولا أعلم لما استجبت لعرضها ومددت يدي وسمحت لها بمساعدتي في الوقوف. لم أنطق بحرف وهي كذلك، قادتني للكنب الأبيض أمامي وأجلستني عليه بابتسامة، طلبت مني أن أصبر لثوان بينما تجلب لي بعض الماء. لم أهرب، ولا أعلم لما وثقت بها، ويا ليتني هربت.
بعد دقائق معدودة وكأسين من الماء طلبت مني المرأة ذاتها التي استقبلتني بأن أتفضل بدخول الغرفة، باب أبيض بمقبض ذهبي، رائحة خشب محروق تشبه رائحة منزلنا يوم الجمعة، وغرفة بجلسة أرضية فضية وفرش أرضي ناعم، تتوسط الغرفة المستطيلة امرأة، تجلس على الأرض وأمامها فرن كهربائي صغير، وعلى جانبها الأيمن صندوق مليء بقوارير وعلب مختلفة الأحجام، تبتسم بسرور لرؤيتي أو هذا ما أظنه، تقول:”هلا والله بالجيران، أخيرًا شفناكم.” علمت بأنها أم راشد.
اتخذ الحديث طابعًا حميميًا، سألتني عن مكونات قهوتي المفضلة وأعدتها لي أمامي، شربت منها واستمريت بالشرب، لم أستطع التوقف عن الكلام، أنهمرت كلي، بالجيد والسيء، عن نفسي وعائلتي والجميع، حتى عن الدبيّة وهي مديرة المدرسة لم أتركها وشانها، تحدثت عن كل شيء وبأي شيء. استقبلتني بعطف وحب، تفهمتني كما لم يفعل أي أحد مسبقًا، لم تصدر علي أحكامًا ولم تفجّر رأسي بالنصائح.
أخبرتها بالمرة التي حاولت فيها قطع عروق يدي اليسرى بسبب والدتي، لم أجد حلًا لمشلكتنا، فعلت المستحيل لأستطيع إرضاءها، فعلت المستحيل لأشعر بأنها والدتي، لكن محاولاتي البائسة لم تجدي نفعًا، وهي لم تهتم أصلًا، ولن تهتم. تخبرني دائمًا بأنني لو أتزوج الآن لكان الحال أفضل لنا جميعًا، بالرغم من أنني لم أتخرج من المتوسطة بعد. تخبرني لو مت بعد ولادتي خلال الحمى التي أصابتني لكانت أسعد، بالرغم من كوني ابنتها الوحيدة، إلا أنها تريد أن أكون ابنتها المرحومة الوحيدة.
خرجت من عندها بسرعة، شكرتها على القهوة التي أعدتها لي ووعدتها بزيارتي قريبًا. في طريقي للمنزل غمرتني مشاعر غضب رهيبة، أردت إحراق بيوت جيراننا جميعها، أردت وضع حد لكل هذا، شعرت بالأرض تهز من تحت قدمي، ولم أهتم إن كانت والدتي قد وصلت للمنزل قبلي أم لم تصل، لكنها لم تصل أبدًا.
