” إذا كنت تستطيع أن ترى، فانظر
إذا كنت تستطيع أن تنظر، فراقب”
بهذا الاقتباس ابتدأت الرواية، وأشعر بأنه يحمل الرسالة والغرض من الرواية بشكل صريح، إن كان لها غرض. وفي ثاني صفحة من الرواية، ابتدأ الرعب. وأشرع بذكر مشاعري في بداية هذه المراجعة، ليس لأهميتها، وإنما لأذكر الأثر الذي تركته علي الرواية، ولكن ما هي المراجعات إن لم تمتلئ بالمشاعر الشخصية؟ عشت برعب مؤرق، أخاف مع كل رمشة أن أفقد بصري، وقبل أن أنام أتأكد من أن الذي أراه مغمضة العينين هو السواد وليس البياض. فكرت كثيرًا بملئ المستودع بالأكل والاحتياطات، فكرت بتعديل الحواف الحادة والخطيرة من أثاث المنزل، فكرت بجدية بدرج منزلنا المائل، وإن كان سيشكل مشكلة في حال عانينا من ذات الداء في الرواية. رؤيتي للصيدليات تعيدني للرواية، فمع حاجتهم للدواء، لم يستطع أي شخص الاستفادة من الصيدليات المفتوحة، ولم يعد للأطباء فائدة، فكيف لهم أن يصرفوا الأدوية وأن يعطي الصيدليون الحبة الصحيحة للشخص المنشود. رؤيتي للمرحاض -وانتم بكرامة- تعيدني للرواية أيضًا، ماء المراحيض أصبح الماء الوحيد النظيف إلى جانب المطر. تعطلت الحياة بشكل لم أتخيله بفقدان البصر، فزعت. شعرت بالامتنان لنفسي لتأجيل القراءة للمرة الأولى في حياتي، ممتنة لأنني لم أقرأها وقت جائحة كورونا، لفقدت عقلي بالتأكيد.
سبب إعجابي الأول بالرواية هو أسلوب الكاتب، لم يضع الكاتب أي علامة ترقيم في الرواية، ولم يضع أسماء لأي علم، لا أسماء شخصيات، ولا أماكن، ولا حتى تواريخ. نرتبط بالشخصيات بصفاتها، فهنا زوجة الطبيب وهي المنظار الذي نشاهد به واقعها، وهنا الكهل ذو العين الواحدة، وهناك الأعمى الأول والسارق. يضعنا الكاتب في منتصف الحوار، في منتصف الغرفة التي تحتجز الشخصيات، نحاول معرفة الأشخاص من صفاتهم بدلًا من أصواتهم، نحاول الربط بين الصفة والفعل والفكرة، لا توجد أوجه تختصر هذا كله، يعتمد فهمنا على خارطتنا العقلية التي نشكلها عن الشخصيات، نود في بعض اللحظات أن نطلب من الشخصيات أن تذكرنا بنفسها، أن تعيد كلامها، أن نرتب المتحدثين بشكل أبجدي ثابت لكيلا نضيع. -في الحقيقة، لا أستطيع التمثيل أكثر، لم تكن قراءة الرواية صعبة بالنسبة إلي، فقد قامت دار النشر مشكورة بوضع علامات الترقيم وأقواس التنصيص، ولم تكن القراءة صعبة كصعوبتها بلغة الكتاب الأصلية أو باللغة الإنجليزية. فلم أعاني كثيرًا بالقراءة، أو بالأصح لم أعاني قط، ولم تكن السطور السابقة سوى تمثيل، غرقت في الوصف ولم أستطع التوقف.-
كقصص النجاة التي أقرأها، والأفلام التي تنتهي بنجاة الشخصية الرئيسية فقط التي لا أشاهد غيرها، هكذا كانت الرواية. مجموعة عميان يحاولون النجاة بمجتمع أعمى كامل، وكما هو معروف في أجواء كهذه، تصبح بعض الحيوانات أرحم من بعض البشر. تقل الموارد، وتقل الصفات الإنسانية، ينقلب الجميع إلى وحوش، ويبالغ البعض بتقديس مبادئهم الإنسانية، ويمثلون جماعة حقوق الانسان في مجتمع يفقد تلك الصفة. تنشب حروب ونزاعات على كل شيء، على السرائر، على الحق في الكلام، على قطعة بسكويت متعفنة.
تبدأ الرواية بشخص أعمى واحد، في وسط الشارع، يشاهد البياض فقط. تمتلئ بعده المدينة بالعميان، إلا من امرأة واحدة، تضحي بحياتها وتمثل كونها عمياء لترافق زوجها المنبوذ. يعيش العميان الأوائل في مصحة مهجورة، يصلهم الأكل مرميًا على الأرض، يتقاسمونه بينهم، حتى تدخل الأسلحة في تلك المصحة، تبدأ المقايضات والنزاعات والجثث. تتكدس الأجساد بمرور الأيام، تقل الموارد، وتختفي المساحات الشخصية، تنتشر الأمراض كما انتشر العمى، ولا يبدو أن هناك أي تجاوب من الحكومة لوضعهم، يتركون لأنفسهم، وللمرأة الوحيدة القادرة على الرؤية.
تناقش الرواية الإدارة والرأسمالية والحكومات، الحب والرغبة والكراهية، السيطرة والجشع والمؤامرة، وإلى أي مدى يمكن للإنسان أن يبقى إنسانًا.
أظنها أفضل رواية قرأتها لهذه السنة، وهذا ما أقوله بعد أغلب الكتب التي أقرأها، لكنها فعلًا أفضل رواية حتى هذه اللحظة على الأقل. أكسبتني الرواية عدسة جديدة أشاهد من خلالها العالم، ولعلها أعظم هدية قد يقدمها أي كتاب للقراء.
لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون.
إن كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية، فدعونا على الأقل نفعل كلما بوسعنا كي لا نعيش كالحيوانات.
إن الصعوبة لا تكمن في معايشة الناس إنما في فهمهم.
حين يجن الجميع فإن احتفاظك بعقلك يصير أقسى أشكال الانتحار.
قد يسبب الخوف العمى.
إن العقل يعاني عندما يستسلم إلى الهولات التي يخلقها بنفسه لنفسه.