يعدل ثوبه، يسحب الثوب من اليمين ويشده إلى الأسفل، يلتفت إلى المجزرة خلفه، لم يصل صديقه بعد إلى النافذة، نظرات مصوبة حول يده، يحمل عصيرين وشطيرة بيض. قرصه يشعر بها بشحمة إذنه اليسرى، يجد الطالب في الصف السادس خلفه، يضرب طالب الصف السادس رقبته من الخلف ويشعر بها تشتعل بفعل الضربة، يشق طالب الصف السادس طريقه نحو نافذة المقصف. يغتنم الفرصة ويهرب عائدًا للفصل، يخبئ علبة عصير واحدة في حقيبته، ويتحضر لشرب الثانية. يلحق به صديقه بعد مضي خمسة عشرة دقيقة على الفسحة، ولم تتبقى سوى خمسة عشرة دقيقة أخرى، يجلسان بجانب بعضهما البعض، ويتناولان شطائر البيض، التي تحتوي على الشطة والقشر والقليل من البيض.
في عودته للمنزل يرمي حقيبته في الممر، يعود لها راكضًا ويخرج العصير، يضعه في الفريزر وينتظر في الصالة أمام التلفاز. بعد انتهاء حلقة برنامجه الكرتوني المفضل عن كرة القدم، يركض للمطبخ، يخرج العصير من الفريزر ويضعه في الثلاجة، ويمضي وقته بانتظار عودة أخيه من الجامعة بإفساد الجو العام في الصالة. يسمع الباب الخارجي للمنزل يفتح، يركض للثلاجة ويخرج العصير، ينتظر على كنبة الصالة متصنعًا عدم الاكتراث بالنظر إلى أخبار قناة العربية على التلفاز، ويبدي اهتمامًا غير منقطع النظير بأخبار الانتخابات الامريكية. يدخل أخوه المنزل، ترحب به والدته في المطبخ ووالده ااذي يتابع الأخبار. يقتنص هدوء الصالة بعد ضجة الاستقبال ويمد العصير لأخيه بالخفاء ويقول:”جبت لك عصير اليوم من المدرسة، اشربه” ويرد أخوه بامتنان مصطنع:”شكرًا بشربه بعدين” ولم يشربه أبدًا، فحاوية القمامة الخاصة به لم تحتو أبدًا على علبة العصير، ولا أي من المشتريات السابقة، ولم يسمع أخوه يتحدث عنه أبدًا لأحد.
أحيانًا، يستلقي سريعًا في صالة المنزل، لا يخلع نعليه، وينتظر لدقائق، تمتد لنصف ساعة، يفقد الأمل ويستسلم للنوم. يستيقظ عند وقت الغداء على أصوات حضور إخوته للسفرة الموضوعة على الأرض، يجد حذاءه متعلقًا في قديمه. يحرك قدميه يمينًا ويسارًا لتطير أحذيته بالهواء، انتقامًا منها على إصرارها بالتشبث فيه، ورغبة منه بأن تتجه إلى إحدى الأوجه أمامه، إلا أنها دائمًا ما تعصي رغبته، فتعود متشقلبة في الهواء وتهبط على وجهه.
يجمع مصروفه الأسبوعي، لا يصرف أي ريال في المدرسة، وبحلول الثلاثاء يذهب إلى البقالة، وقبل خروجه إليها تحاول والدته إقناعه بالحفاظ على أمواله، وأن وضعها في حصالته أفضل له من البقالة، إلا أنه يصر على صرف مدخراته كلها بشكل اسبوعي، يشتري أغلى الحلويات، ويحاول تهريب المشروبات الغازية بدون علم والده. وإن كان مشوار الخروج من المنزل يتضمن المكتبة، فهو سيشتري منها بالتأكيد، أغرب قلم، أكثر الدفاتر ألوانًا، ولا ينسى بالطبع قلم الأحمر الحبر للتصحيح، وأقلام السبورة. يحاول والده منعه بشتى الطرق، إلا أنه يصر عليها، يقول والده باستهجان:”الحين وشوله أقلام السبورة؟” يرد بدون أن يتبادل النظرات معه:”أحتاجها”.
يحل الأربعاء، يستيقظ نشطًا من فراشه، يتأكد من وجود أقلام السبورة والقلم الأحمر في حقيبته للمرة الألف، يرتدي ثوبه على عجل، ويأكل باقي فطوره في السيارة تحت صراخ والده وتهديداته، يحاول بصمت ألا تسقط أي قطعة بيض على كراسي السيارة المهترئة. يصل للمدرسة، يمضي الوقت بطيئًا، تمر حصة القرآن، يستيقظ بانتهاءها بلعاب سال على خده، وتبدأ بعدها حصة الرياضيات التي يفشل بها بتسميع جدول الضرب للمرة الثالثة، وتتبعها حصة الدين التي لا يفتحون فيها الكتاب. يعود من الفسحة ومن الحرب القائمة في المقصف بقرصة أذن أشد من سابقتها، ولكنه ينسى ألمها بدخول أستاذ الفنية. تأخر الأستاذ خمس دقائق؛ مما دعاه إلى التفكير بأن حماسه هذا كان بلا فائدة، إلا أن الأستاذ أنقذه من سيل أفكاره الكئيبة بعد دخوله للفصل وتوديعه لأستاذ الرياضة عند الباب. يخرج كراسته ويضعها أمامه منتظرًا إرشادات الأستاذ، يقول الأستاذ بعد مدة تفكير غير بسيطة:”ارسموا جرّة” يرد عليه أحد الطلبة بسرعة شديدة يكاد الجميع يشك في كونه اتفق مسبقًا مع الأستاذ عليها، يقول:”بس يا أستاذ رسمناها قبل أسبوعين” يبتسم الأستاذ ويقول:”أجل هالمرة ارسموا جرة فيها ورد، والجرة تكون جنب نخلة، وروني ابداعكم.”
ينهمك الطلاب بالرسم، لا تسمع سوى أصوات ضربات الأيدي على الكراسات لتنظيفها من آثار المساحات وأقلام الرصاص، ضربات تلو ضربات، ومحاولات استنجاد بالاستاذ عن كيفية رسم النخل، يرد عليها:”ارسموا النخل بالشكل اللي تبون، ما أحب أحكر أحد بطريقة رسم معينة.” تزداد الأصوات باشتعال المنافسة، فالمجد للمنتهي الأول الذي سيبدأ الطابور، وسيقف أمام الأستاذ مباشرة. تتردد عبارات كـ:”لا تقلد رسمتي” و:”والله ان هذي مساحتي وهذا قلمي” وتتحول الحصة من حصة فنون إلى حصة حروب، تتطاير الأقلام، وتعض المساحات لتحديد الملكية، وتضيع البرايات تحت هذا كله، فتصبح حطامًا تحت الطاولات. وأما هو، بيرسم بهدوء، متأملًا استاذه، وممسكًا بالقلم الأحمر الجاف بيده اليسرى، استعدادًا للانقضاض.
يقفز من كرسيه، يتجه مسرًعا إلى طاولة الأستاذ ، ييقول الأستاذ:”إذا كنت تبي مساعدة ترا أنا ما أحب أعطي مساعدات” فيرد عليه قائلًا:”بس أنا ما أبي مساعدة، خلصت” يبتسم المعلم، يتناول الكراسة ويدعي الإعجاب، يكثر من قول ما شاء الله ككلمة الثناء الوحيدة التي يعرفها. يلمس جيبه العلوي، ويلمس جيوبه الجانبية، يبحث عن قلمه الأحمر الذي لم يكن له وجود أبدًا، ويمد له في أثناء عمليات البحث قلم أحمر جديد ينزلق من العرق. يقول له المعلم:”شكرًا أنت منقذي” ولا يشكره بالاسم حتى، بالرغم من أنه يعطيه قلمًا في كل أسبوع.
يقول في نفسه:”يارب تنكسر يدي، يارب تنكسر يدي” كفرصة أخيرة، يضحي بيده، أغلى ما يملك، في سبيل الاهتمام. يقفز فوق سريره، يركض مسرعًا على السلم، يضرب الطالب في الصف السادس ويحتمي بيده في أثناء رد الضربة، لكن يده تمتنع عن الانكسار. يعود للمنزل ككيس من التراب، شعر أشعث، وكدمات في أنحاء جسمه، وبيد يمنى سليمة.
تقف سياراتهم أمام مدرسته، يحاول الترجل منها، يتعكرف بطرف ثوبه، يسقط على الرصيف، على مرأى من الجميع. يحاول الوقوف ويسقط أرضًا، ويسقط معه سنه الأمامي، يحمله والده إلى المستشفى، ويعودون للمنزل برجل يمنى مكسورة، وسن أمامية مخلوعة قبل أوانها.
ينقل صفهم الدراسي من الدور العلوي إلى الدور السفلي، في غرفة تقع على يمين مكتب المدير، وأمامها تمامًا يقع مكتب الوكيل، بمكيف قديم ينفث قطعًا ثلجية صغيرة أحيانًا، وأحيانًا أخرى ألسنة من اللهب. ولم تكن مشكلة النبذ الكامل هي مشكلته الوحيدة، وإنما الضحكات التي تتبع قوله لكلمة:”أثتاذ”.