“محاصرون نحن داخل تفاصيل حياتنا اليومية حتى لتبدو أحداث الماضي نجومًا قديمة خبا ضوؤها، فلم تعد تشغل محلًا قي أذهاننا. ثمة الكثير لنفكر فيه كل يوم، والكثير لنتعلمه، أساليب جديدة، معلومات جديدة، تكنلوجيا جديدة، مفردات جديدة… ومع ذلك، ورغم مرور وقت طويل، وبغض النظر عن كل الأحداث الغامرة، فهناك أشياء لا يسعنا أبدًا أن نلقيها في طي النسيان، ذكريات لا تمحى، تبقى للأبد كالحجر الصوان.”
كافكا على الشاطئ
بالأمس وقعت بالصدفة على هذا الاقتباس، تصفحت الرواية على عجل لأصل لمعلومة معينة، وأخذت أتجول بين الصفحات وأقرأ اقتباساتي التي ميزتها بخط رصاص رقيق أثناء القراءة. وذكرني هذا الاقتباس بكاميرتي الجديدة التي اشتريتها قبل أيام معدودة، بشراء هذه الكاميرا ذات الطباعة الفورية ضعت بين أساليب التوثيق، فهل أكتب عن الحدث أم أكتفي بتصويره؟ هل أشتري ألبومًا أم أكتفي بإلصاق الصور بالدفتر؟ ضعت ما بين التصوير والكتابة وما بين عيش اللحظة. أحاول بجد اختزال الذكريات على الورق، لكن أعلي ذلك حقًا؟ قرأت مسبقًا بأن اللحظات المميزة فقدت بريقها في هذا الوقت، فما أن أصف حدثًا ما لأي شخص حتى يكون قد شاهده مسبقًا على مواقع التواصل الاجتماعي. فقدت اللحظة لمعانها بمشاركتها مع الجميع، أصبحت الذكريات باهتة وقديمة، فلا فائدة من وصفها ولا الحديث عنها، وكما حدث في فيلم – coco – فالذكريات تنسى بالتوقف عن الحديث عنها. وبإبدال الوصف بالصور، يفقد الإحساس للأبد. القمر المكتمل من فوق الجبل الذي شاهدته الزوجة مع زوجها في لحظة شاعرية أصبحت لحظة ملكًا للجميع، ذكرى مشتركة على نطاق واسع، لا فائدة من الحديث عنها، فالصورة موجودة. بالعودة إلى الاقتباس، ولأنني محاصرة في تفاصيل حياتي اليومية، أحاول توثيقها لإثباتها، لإثبات أنني عشت هذا اليوم، وهذا يوم مختلف عن الأمس، سارة الأمس مختلفة عن سارة اليوم. ولكن هل بتوثيقي هذا أفقد شاعرية ودفء ذكرياتي؟ وهل مشاركتي هذه تجعل من ذكراتي ملفًا مفتوحًا للتعديل وإعادة الإرسال؟ أعتقد بأن الموضوع كاملًا يعتمد على التجربة والإحساس والكيفية. التوثيق المفصّل لحدث ما يفقد ذلك الحدث واقعيته. -أتراني أجد مسوغًا بإجابتي هذه لتوثيقي الثلاثي الأبعاد؟ ممكن- فأرى أن صورة واحدة للذكرى لا ضرر منها، وحتى التدوينة الطويلة عن حدث معين لا بأس بها، إلا أن التوثيق بصورة ومقطع والكتابة لحدث واحد لهي المشكلة. إلى جانب الإصرار على إيجاد الصورة المثالية، واللقطة السينمائية المذهلة، وذلك ما يفسد عيش اللحظات بالكامل، وذلك ما يجعل الذكرى مجرد موقف عابر للمشاركة والتوثيق ليس إلا.
“الذكريات تدفئك من الداخل، لكنها تمزقك أشلاء أيضًا.”
نفس المصدر السابق
أؤمن بأن توثيق الذكريات يعمل كالبوصلة، في اللحظات التي ينسى فيها المرء نفسه، توجهه ذكرياته إلى نقطة البداية التي تساعده للعثور على ذاته الضائعة. وأؤمن بأن التغيير أحيانًا يجب أن يمزقك أشلاء قبل أن يعيد ربطك ببعضك البعض. يتغير البعض بدون خياطة وتمزيق، يتغيرون بالفرح العارم، والضوء الساطع والاحتفالات والانجاز، بينما يتغير آخرون عن طريق الألم والجراحة والاستنزاف. وقد تكون الذكريات والنظر إليها مقدار ألم مناسب للتغيير. وإن أضعت نفسي، فأنا متأكدة بأنني سأجدها بين طيات دفتري المتجعد بفعل الغراء.
“كل منا يفقد شيئاً عزيزاً عليه، فرصاً، إمكانيات، مشاعر لا يمكننا استعادتها أبداً. كل هذا جزء من معنى كوننا نعيش. ولكن في داخل رؤوسنا -أو هذا ما أتصوره أنا- نخزن الذكريات في غرفة صغيرة هناك. غرفة كالرفوف في هذه المكتبة، ولنعي الأعمال التى كتبتها قلوبنا، علينا أن نصنفها وننظمها ببطاقات، ونزيل عنها الغبار من حين لآخر، ونجدد لها الهواء، ونغير الماء في أواني الزهور. بكلمات أخرى، ستعيش إلى الأبد في مكتبتك الخاصة بك.”
نفس المصدر السابق والذي يسبقه
“مع كل فجر جديد لا يكون العالم هو نفسه ، ولا تكون انت الشخص نفسه”
نفس المصدر السابق، والذي يسبقه، والذي يسبقه
وهذا سبب كاف للتوثيق، أن توثق مراحل تغيرك أنت بجوار العالم.
أكتب هذه التدوينة بعد طباعة ست صور التقطتها في يوم واحد، أدمنت صوت الطباعة، وأدمنت كل ما يتعلق بالتصوير. لا أستطيع القول بأن طفرة التصوير المتعلقة بعام ٢٠١٢ عادت مجددًا، لأنني لست بتلك الجدية للاحتراف، وإنما لأوثق اللحظة بلقطة واحدة عفوية، للأشخاص أكثر من الأماكن، وهذا ما يهم بالنسبة إلي. وقد تكون هذه التدوينة مجرد عذر يسوغ لي شراء المزيد من أوراق الطباعة، وشراء كتب جديدة لهاروكي موراكامي. لكنني سعيدة بذلك، ولدي مبلغ طوارئ، يحرص أبي دائمًا على تذكيري بالحفاظ على مبلغ طوارئ إن أردت شراء أي شيء. وبهذا اكتملت المسوغات، وسأذهب الآن للبحث عن متجر يبيع لهاروكي موراكامي.
وحتى أجد مسوغات أخرى لعاداتي الجديدة، إلى اللقاء يا أصدقاء.