مخالفة ساهر لفستان

في العاشر من نوفمبر العام الماضي، أي قبل سبعة أشهر وأربعة وعشرون يومًا من كتابة هذه التدوينة، قمت بدفع مبلغ من المال لمشغل خياطة في الرياض لخياطة فستان زفافي. لم أدفع عربونًا، وإنما المبلغ كاملًا، بالرغم من أنني لا أعرف المشغل ولا صاحبته ولا عن أي توصية له، وإنما مشيت على عماها، وعلى طيبة قلبي. ولم أعلم حينها أنها كانت البداية لمعاناة عظيمة، سهر وكوابيس وخلافات ومخالفة ساهر.

في أثناء المناقشات الأولية للاتفاق بيني وبين – المصممة – كما كتبت على صفحاتها في مواقع التواصل، والتي اتضح أنها لم تصمم شيئًا ولم تمسك خيطًا أو ابرة في أثناء العمل على فستاني، قالت لي:”الشغل على فستانك بياخذ أربع شهور” وبعد القليل من الحسابات والطقطقات التي طقطقتها في مخي بناء على كلامها، أيقنت أنني سأستلم فستاني قبل بداية رمضان، وهذا ما يعطيني الحرية للعمل على باقي تفاصيل الزفاف براحة وروقان بعد وضعي لأهم عنصر من الزفاف في دولاب الملابس. كانت المحادثة الأولى لنا مليئة بالكلام المعسول من قبلها، تكثر من قول:”يا عيوني” و “يا قلبي” و “يا روحي”، لعبت على وتري الحساس وقلبي الطيّب، فلم يكن مني إلا أن دفعت المبلغ كاملًا بعد اختياري لنوع الخرز -لم يوضع الخرز الذي اخترت في الفستان- ونوع القماش وتفضيلاتي وملاحظاتي الخاصة. ترد:”ابشري” حتى بعد سلامي عليها، وأعد كلمة أبشري كلمة ذات وزن ومعنى لا يصح العبث بها، وقد شعرت بأن تكرار أبشري منها لعلامة مطمئنة لسير المشروع، لكن ليست كل أبشري أبشري، مثل ما “هو مو أي علاقة اسمها علاقة، ومو كل إكس اسمو إكس.”

ولأن الصبر مرادف لاسمي، صبرت شهرًا كاملًا بدون أن أن أسأل عن أي تفصيل عن الموضوع، لأنني أفكر بأن الموضوع كاملًا انتقل من جانبي إلى جانبها، فكل ما أريد، وكل تفصيلة صغيرة وكبيرة أخبرتها بها، وإن كان هنالك شيء غاب عن بالي، فهي المسوؤلة بالتأكيد للتواصل معي أولًا لإخباري عنه. سألتها في نهاية الشهر عن سير العمل، أخبرتني بأن العمل سارٍ، وأنني لا يجب أن أقلق بخصوص أي شيء، وأن المقاسات سيتم أخذها بعد الانتهاء من العمل على القماش. صبرت شهرًا آخر، وسألتها عن سير العمل مجددًا، وأجابتني بنفس الإجابة، العمل ساري، والمقاسات سيتم أخذها حالما يجهز القماش. وبعد طقطقتي تلك، لم يتبق سوى شهر واحد على رمضان، وهو الشهر الذي كان يفترض بي أن استلم به فستاني، وكررت هي تلك الإجابة للمرة الثالثة. انشغلت في رمضان، ولم أتذكر الفستان إلا للحظات بسيطة، وفي العشر الأواخر سألتها ذات السؤال، وأخبرتها بأن العمل على القماش أخذ وقتًا مبالغًا به. فلم أطلب يا عزيزاتي وأعزائي القراء ذيلًا طويلًا يبدأ عند مدخل الزلفي وينتهي عند باب القاعة، وإنما ذيلًا طوله متر، ونوع قماش واحد. طلبت مني المقاسات، وأعطيتها في الحال، وأعتقد أنها طلبت المقاسات فقط لإسكاتي، لأن العمل استمر على الفستان حتى لبعد العيد.

بعد العيد بعشرة أيام تقريبًا أو أكثر، وأظنني سألتها أولًا عن سير العمل للمرة المليون، وأضيف هنا أنها لا ترد علي إلا بعد مضي يوم كامل على الرسالة، فكنت أرسل الرسالة وأنام على أمل أن ألقى ردًا عند استيقاظي بالغد. سألتها عن الشحن، وطلبت مني عنواني، أعطيتها عنواني كاملًا، ولو طلبت مني صورة لجواز سفري لأعطيتها إياه، واختفت كعادتها. سألتها بعد أسبوع عن الشحن، أخبرتني بأنها ستشحن الفستان عن طريق شركة لم أسمع بها من قبل، لكنني وجدت لها فرعًا لدينا، لذلك لم أشكك في الموضوع. مر أسبوع، لم يصلني الفستان. سألتها عنه، أخبرتني بأنه لدى شركة الشحن. مر أسبوع آخر، سألتها عنه، أخبرتني بأنه عند شركة الشحن. وعدتني وحلفت بأيمان مغلظة بأنها ستقوم بنفسها على الإشراف على الشحن، وأنها هي بنفسها ستتواصل مع رئيش الشركة نفسه وستطلب منه أن يشحن فستاني. لم تصلني رسالة بالشحن أبدًا، ولم يصلني الفستان.

اقترب ذو الحجة، لم تتبقى سوى أسابيع قليلة على الزفاف ولم يصلني الفستان بعد. طلبت منها أن تلغي الشحن وأن توصل الفستان عن طريق مندوب إلى بيت عمي بالرياض.وبعد أسبوع من الانتظار، تواصل المندوب معي أخيرًا، وكانت تلك الرسالة بمثابة الفوز بكأس العالم. صادف أنني كنت في الرياض وقتها، فأخبرني المندوب أنه سيجلبه الخميس، إلا أن سيارته تعطلت، وطمأنني بأنه سيجلب الفستان الجمعة حالما تخرج السيارة من الورشة. انتظرت وانتظرت حتى أخبرني ليلًا أن السيارة لم تخرج بعد، وأنه حتمًا سيعطيني إياه السبت. انتظرت وانتظرت وانتظرت، وصل الفستان قبل مغادرتنا للرياض بنصف ساعة، في العاشرة ليلًا. بعد صرخات وقفزات ودموع تحارب الخروج، فتحت سحاب الكيس العملاق، وكانت الصدمة أن الفستان لم يكن فستاني. للوهلة الأولى، حسبت أن التنفيذ سيء إلى درجة أنني لم أتعرف على الفستان، الفستان الذي حلمت به ليلًا ونهارًا، ورافقني إلى عالم أحلامي مرارًا. أخبرتها بأن الفستان لم يكن فستاني، وأن المندوب أخطأ بالتسليم، وأن المقاس ليس مقاسي ولا التصميم تصميمي، أجابتني:”مستحيل مو فستانك، الحين أرسل لك الخياطة تضبطه.” أخبرتها بأنني بالتأكيد لست عمياء، وأنني أستطيع التمييز بين الأبيض والبيج، فالفستان الذي أمامي كان أبيضًا مصفرَا مغبرًا بعيدًا حتى عن البيج. قالت بأن أخطاء كهذه تحصل، وأن فستاني بالتأكيد ما زال عند شركة الشحن. أمسيت تلك الليلة ولا أعرف كيف لي أن أمسيت، فلا أعرف إن كان فستاني قد خيط فعلًا أو أنه ضاع في طي الشحنات في مستودع شركة الشحن.

أخبرتني بأنها على رأس الموضوع، وأنني لا يجب أن أقلق، فالموضوع لا يغدو عن كونه خطأ بسيطًا، وأنه سيصل حتمًا لي، كونها تولي الموضوع اهتمامًا خاصًا من قبلها. ومرت الأسابيع ولم يتبقى على زواجي سوى عشرين يومًا، استجمعت شجاعتي وأرسلت لها رسالة صوتية كلها حزم وغضب، آخذ بها نفسًا كل خمس ثوانٍ؛ لأحبس دموعي من فضحي. قلت بأنني أريد استرجاع أموالي، وأنني لا أريد الفستان. وكانت الصدمة بأن قالت:”التأخير كله منك، ما قلتي لنا من البداية إن عندك عم بالرياض يمديه يوصل الفستان ولا كان ما رحنا نشحنه لك بشركة شحن!.” كنت من الصدمة صامتة لدقيقة كاملة، لا أعرف ماذا أقول أو من أين أبدأ، وفي خضم تزاحم الأفكار في بالي أرسلت لي صورة الفستان من المشغل، وقد كانت تلك الضربة القاضية. عادت رغبتي فيه، وتمنيت أنني لم أطالب بمالي. قالت لي بأن الفستان مع المندوب، وأنه سيصل لعمي بيوم السبت، في الثانية ظهرًا.

السبت، يوم عرفة، يوم توصيل الفستان، الثانية ظهرًا.

لم أضع منبهًا، فأنا أعلم يقينًا بأن هواجسي ستوقظني حتمًا وهذا ما حدث. استيقظت في الثانية إلا عشر دقائق، أراقب السقف وأحرص ألا يطير، أنتظر أن يتواصل معي المندوب في الثانية تمامًا، كما أفعل أنا مع كل شيء أقيد به مع الوقت، فإن طلبتم مني الحضور في الواحدة وخمس دقائق وخمسة عشر ثانية، فسأكون في المكان بنفس التوقيت، وأتوقع من الجميع أن يكونوا مثلي، وأكبرهم نقيضًا مني صاحبة المشغل ومندوبها. دخلت الواتس اب، فكثيرًا ما تصلني الرسائل بدون أن يصلني إشعار بقدومها، وهكذا ظننت أن المندوب تواصل معي لكن إشعار رسالته لم يصلني. لكن الإشعار الوحيد الذي وصلني هو من ابنة عمي التي وكلت باستقبال الفستان. أرسلت لي في الساعة الثانية تمامًا، وهذا ما يبثت أننا بنات عم بدون الحاجة لأي إثبات آخر، قالت:”سارة وين المندوب.” ضحكت وقلت بأنني دخلت للتو للبحث عن رسالته ولكن لا حياة لمن تنادي. وما يزيد الوضع سوءًا، أن عمي وعائلته يجب أن يغادروا الرياض قبل آذان المغرب، وهو ما يجعلني في سباق مع الوقت والمندوب. أرسلت لصاحبة المشغل استفسر عن المندوب، إلا أن صحًا واحدًا كان لي بالمرصاد، فلم تصلها رسالتي، وهنا بدأت الشكوك بنخر رأسي.

السبت، يوم عرفة، يوم توصيل الفستان، الثالثة والنصف عصرًا.

قرئت رسالتي ولله الحمد، وردت صاحبة المشغل بأن المندوب بالطريق. انتظرت وانتظرت وانتظرت، لكن بدون أي دليل على أنني موعودة بشيء، فلا المندوب اتصل، ولا صاحبة المشغل تنطق، والناطق الوحيد كانت ابنة عمي، تسأل عن المندوب، وعن فرشة أسنان مجهولة الهوية في منزلهم، ومع أن ذلك لم يكن وقته تمامًا للبحث عن صاحب فرشة الأسنان، إلا أنها كانت لي، وطلبت منها إحضارها، إلا أنها تركتها في الرياض، ولا أعلم لما حرصت على البحث عن صاحب الفرشاة إن كانت ستترك الفرشاة في مكانها.

السبت، يوم عرفة، يوم توصيل الفستان، الخامسة عصرًا.

أخبر صاحبة المشغل أن تعطيني رقم المندوب لأتواصل معه، إلا أنها أخبرتني بأن المندوب أخبرها بأنه تواصل معي! ولكنني لم أستقبل أي مكالمة. بعد دقائق من البحث في الموضوع، كان المندوب قد اتصل على واحدة غيري وقد أخطأ بالرقم. يتصل بي المندوب أخيرًا، يخبرني بأنه على دقائق من الوصول، وبعد دقائق معدودة يتصل بي مجددًا، يقول:”فيه تحويلة مو عارف كيف أوصل للبيت من خلالها.” هرعت لمنيرة ابنة عمي، قلت لها:”منيرة! أنتم ما عندكم تحويلة صح؟ ليه يقول لي المندوب فيه تحويلة!.” يستلم عمي الدفة، يأخذ رقم المندوب ويستفسر عن مكانه، واتضح بعد ثواني قليلة، أنه في موقع مغاير للموقع الذي أرسلته له، يقول:”أنا خلاص ما راح أوصله لك، الموقع جابني هنا وأنا ما راح آخذ مشوار ثاني.” وقبل أن تتاح لي فرصة الرد عليه، تقول لي صاحبة المشغل:”ليش تخلين رجال يكلم المندوب! كلميه أنتِ بنفسك!” ولم أشعر برغبة عارمة لضرب شخص كما شعرت بها تلك اللحظة. وكما يفعل عمي بدر دائمًا، ومنذ صغري، وضع قبعة المنقذ، وصار بدر المنقذ. بخمس ثواني، ركب الجميع السيارة، وطلب من المندوب ألا يتحرك من مكانه، وسيذهب هو بنفسه لموقع المندوب، ومن موقع المندوب وبعد استلام الفستان سيغادر الرياض مباشرة. يرسل لي المندوب بأنه سيتحرك من مكانه بعد خمس دقائق، وأخبره أننا على بعد خمس دقائق، يقول بأنه صائم، وكأنه الوحيد الصائم، فنحن جميعنا صيام! وبخضم هذا كله، ترسل لي منيرة، وتقول:”صادنا ساهر، قولي لمحمد يسددها.” ومن هنا، بدأت أولى ديون محمد، مخالفة ساهر لفستان زوجته. ممتنة لأن منيرة قالت “قولي لمحمد” ولم تقل:”سدديها” وبذلك أخرج أنا من المسؤولية كاملة.

السبت، يوم عرفة، يوم توصيل الفستان، الخامسة والنصف عصرًا.

يصل عمي لموقع المندوب، يغلق عليه الطريق بالسيارة تحسبًا لابتعاده قبل تأكدنا من أنه الفستان المطلوب، ولم يكتفِ بذلك فقط، وإنما وضع كيس الفستان على سيارة المندوب، وفتحها ليقارن بين الصورة التي أرسلتها لهم والفستان الذي بين أيديهم. اتصل علي اتصالأ مرئيًا، واضعًا الكاميرا على الفستان، يقول:”هذا الفستان ولا موب هو، إن كانه موب هو رجعناه.” يقلب الكاميرا على المندوب، يريني إياه، يقول:”هاه شوفي هذا اللي جاب فستانك.” قلت:”الله يجزاه خير.” قال:وأنا اللي جاي وأخذت مخالفة ما تقولين الله يجزاك خير؟” دائمًا ما نجد فتحة صغيرة للشرهة، مهما كان الوقت والمكان، وهذه ميزة لا توجد في أي عائلة. شكرته، وقلت له :”الله يجزاك خير” كما استعجلني لقولها. وصلني الفستان في ليلة عيد الأضحى.

وصلني الفستان بقياسات مغلوطة، وهو الآن في مشغل آخر، ومن انتظار إلى انتظار، ومن مشغل إلى مشغل، ولكن الأهم من ذلك أنه وصل أخيرًا. حلمت به مرات عديدة، حلم يصلني به الفستان قصيرًا إلى حد الركبة، لا أعرف كيف أقوم بإصلاحه، فينتهي الحلم أبكي  فيه من الحزن. وحلم آخر يصلني به الفستان طويلًا جدًا، لا أستطيع المشي فيه، وأظل محبوسة فيه ليوم كامل. يصيبني الأرق من التفكير، ماذا لو فعلًا وصل قصيرًا؟ ماذا لو لم يصل الفستان أبدًا؟ ماذا لو قمت على حظر من المشغل؟ وافتراضات عديدة تدمّر مزاجي ونومي وهدوئي.

بهذه التدوينة الطويلة، عن الفستان الذي أخذ وقتًا أطول بالقدوم للحياة، أتوقف عن التدوين لإجازة قصيرة آخذها للمرة الأولى منذ بدايتي بالتدوين الأسبوعي. لا أعلم المدة التي سأقضيها بالتوقف، لكنها لن تكون أكثر من شهر أو شهرين. سأعود بإذن الله بقصص أكثر ويوميات مغايرة لما اعتدت عليه. سأكتب ان شاء الله من مكان جديد، من مكتب جديد، ومن تجربة جديدة.

وحتى يوم الاثنين الحبيب الذي أعود به بعد الإجازة، إلى اللقاء يا أصدقاء، وشكرًا لبقاءكم معي طوال هذا الوقت.

سارة

الزلفي

حوش بيتنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top