تغيبت عن النشر والكتابة الأسبوع الماضي إثر إصابتي بالانفلونزا، وها أنا أعود بالجزء الثاني من التدوينة الأخيرة. وكما كنت في المرة الماضية عازمة على عدم أخذ أي وسيلة تسلية في السفر، أنطلق في رحلة العودة إلى جدة بدون كتاب أو ايباد أو حتى سماعات. قضيت وقت الانتظار في المطار قبل الرحلة في التجول، تصفحت جميع كتب فيرجن، وقمت بتقييم نظري لما يقدمه كل مقهى في مطار الملك خالد، وأقول نظري لأنني لم أحتج لشراء أي تحلية، قام والدي بشراء أنواع عديدة من المخبوزات في طريقنا للمطار، وأعطانيها لئلا أحتاج شيئًا أثناء انتظاري، لذلك لم أضطر إلا لشراء كوب من القهوة، والذي أقيمه بثلاثة من خمسة. شربت كوب القهوة وأنا أشاهد ركض المتأخرين على رحلاتهم، بكاء الأطفال بسبب عدم أخذ كفايتهم من النوم، وتعديل المضيفات لزينتهم قبل وصول الطائرة. أثناء الطابور الذي يسبق ركوب الطائرة، تأملت الوجوه التي أمامي، أي وجه سيكون بجانبي يا ترى؟ تقف ورائي فتاة جميلة بعباءة بيضاء، يمتد النقش بالحناء حتى أعلى يدها، وهذا أكثر ما جذب انتباهي، كون النقش أحد المواضيع الرئيسية التي تحدثنا بها قبل سفري، وتعتزم إحدى قريباتي اختفاء ظاهرة النقش، وأقول لها أنها ما زلت موجودة بل وازدادت مؤخرًا في رمضان ويوم التأسيس، واتفقنا على أن نتنقش جميعًا في أقرب مناسبة.
ركبت الطائرة، وكنت بجانب النافذة للمرة الثانية، وهو مكاني المفضل. أراقب الجميع عن كثب، أنتظر سماع الرقم ٤١ ، فهو الصف الذي أجلس فيه، لكن وللمفاجأة، تأتي صاحبة المقعد بجانبي بكل هدوء، تضع حقيبتها في كبينة الحقائب وتجلس بجانبي، وكانت هي ذاتها الفتاة ذات العباءة البيضاء، ولو كنت أعرف ما ينتظرني لكنت استقبلتها عند باب الطائرة، ولكنت اقتسمت ما اشتراه لي والدي معها، ولكنت اشتريت لها كوبًا من القهوة، لنستمتع بالمزيد من الأحاديث، فالحديث معها لا يمل، والوقت معها يطير.
قرأت في بداية المرحلة الجامعية كتابًا أنسى اسمه، لكنني لم أنس ما قرأته فيه حتى هذه اللحظة، ويقول كما أتذكر أن الأحاديث الجانبية لا يجب أن تبدأ أبدًا بالكلام عن الجو، فهو موضوع ممل ولا يستحث المزيد من الأحاديث بعده. وكان الحديث عن الجو بالنسبة لي هو المفتاح، وبقراءتي لتلك الكلمات فقدت الانسيابية والسهولة التي كنت فيها ابتدئ أي حديث، وأصبحت حبيسة التفكير الزائد قبل أي محادثة، لكنني أحاول مؤخرًا العودة لتطوير مهاراتي بذلك. وبعد رحلة العودة هذه، ضمنت سؤالًا جوهريًا ناجحًا لطرحه، هو:”تخافين من الكرسي اللي جنب الدريشة ولا عادي؟” وهذا ما يستحث العديد من الأحاديث عن المخاوف والطائرات والرحلات والمواقف فيها. وجربت أيضًا طريقة أخرى لطيفة قد تكون بداية لمحادثة وقد لا تكون، وهي الاطراء. أحاول أن أمتدح شيئًا في الشخص الذي أمامي، وقد يمتد الحوار في هذا المسار وقد ينتهي ب:”شكرًا.” لذلك أحرص على امتداح شيء تتفرع منه أشياء أخرى، أو شيء أعرفه تمام المعرفة.
جلست بجانبي ميعاد، وهي طبيبة سودانية من مواليد الرياض. تبادلنا الأحاديث منذ استوينا على مقاعدنا حتى وصولنا لحزام الأمتعة داخل المطار. بلغت مدة الرحلة ساعة وأربعين دقيقة، ولكنني لم أشعر إلا بعشر دقائق منها، وهي التي كنت أفكر فيها فيما يجب علي أن أسألها عن خوفها من نوافذ الطائرة أم لا، ومن الجيد أنني سألت، لأنه أكثر فعالية من سؤال الطقس، كما أثبت فعاليته في الرحلة السابقة، وبهذا سيكون سؤالي الأول في كل رحلة، سواء كنت بجانب النافذة أم لا. وحري بالذكر أن أقول بأن الزلفي مشهورة أكثر مما توقعت، في اللحظة التي كنت سأقول لها أنني من الزلفي، وضعت كافة الاحتمالات بالأسئلة التي ستطرحها عن الزلفي، مكانها وبعدها عن الرياض ومشاهيرها وأكبر عائلاتها، إلا أنني تفاجأت بميعاد تقول:”أبوي يشتغل هناك!.” ولم أكمل حديثي قائلة أنني تزوجت وانتقلت للباحة إلا أنها أكملت قائلة:”زوجي كان يشتغل بالباحة!” مصادفتي هذه تصنّف ضمن مصادفات فيلم it ends with us . هل يجب علي أن أذكر أنها هي أيضًا الابنة الكبرى وتزوجت قبلي بثلاثة أشهر؟ أطلعتني ميعاد على العادات السودانية في الزواجات، والتي لم أعرف عنها شيئًا قط، لكنها تتشابه كثيرًا مع العادات السعودية. نتشابه في عادات الخطبة، وفي الأشياء التي يقدمها العريس للعروس، وطريقة عرضها. وأما في الزواج، فنختلف في ثلاثة أشياء جوهرية، أن الزواجات السودانية مختلطة أولًا، وثانيًا تكون بجزئين، الجزء الأول في الفستان الأبيض وفساتين الزواجات المعروفة، وأما عن الجزء الثاني فهو ارتداء الزي السوداني التقليدي للعروس والعريس. وأخيرًا، فعقد القران لا يتم إلا في يوم الزفاف، والذي نقوم به نحن في الملكة قبل الزواج بفترة. تبادلنا الأرقام واتفقنا على أن نتقابل سواء جاءت هي للباحة أو الزلفي، أو زرت أنا جدة.
أشعر بالفخر كوني استطعت الانفصال عن الأجهزة والملهيات في الأماكن العامة، وأعتقد أن الخروج من المنزل فرصة ذهبية للتأمل والانغماس الكامل في اللحظة وللشعور بالملل، حتى ولو كان ذلك في صالات الانتظار. ومع هذا، فلا أعتقد أنني سأمشي على هذا المنوال دائمًا، ففي رحلاتي هذه، ساعات الانتظار قصيرة، ومدة الرحلة أقصر، فلو كانت رحلتي لسبع ساعات مثلًا لكنت بالتأكيد متسلحة بالكامل، آيباد وكتاب وسماعات وبطانية أيضًا، لكنني دائمًا أفضل التواصل المباشر والتأمل على كل شيء آخر.
وحتى الاثنين القادم، والذي سيكون برعاية الكاتب أحمد حسن مشرف، إلى اللقاء يا أصدقاء.
سرد رائع وجميل استمتعت وكانني معكم
ممتنة لقراءتك وسعيدة لأنها أعجبتك ♥️
تعجبني تفاصيلك فالوصف .. اقرأ باستمتاع وبدون توقف
ماشاءالله بوركتي اينما كنتي❤️
ممتنة لك ولكلماتك اللطيفة ♥️