عام النكبة هو عام عانيت فيه من الكثير من النكبات، وأصبحت سارة المنكوبة بدلًا من سارة البندر- وهذا لقب أطلقته على نفسي، لم يطلقه علي أحد؛ نظرًا لتحليلي الذاتي لما عانيت- وأعتقد بأنه ليس عامًا عانيت منه وحدي، بل أظن الجميع يشاركني عام النكبة، وبالأخص الفتيات. وهو العام الذي ندرس فيه بالصف السادس الابتدائي، وهو العام الذي ننتقل فيه إلى المتوسطة، وهو أيضًا العام الذي ارتدت فيه أغلب الفتيات العباءة، وهو العام الذي نشعر به بأولى نبضات الحب، وأولى مشاعر الغضب والغيرة والكبرياء.
في إحدى المرات السعيدة التي انقلبت فيها نكبتي إلى فرصة ذهبية للغياب عن المدرسة، تشاجرت مع منيرة اختي التي تصغرني بخمس سنوات، وكان شجارًا عنيفًا غير مبرر ولا منطقي، كوني في الصف السادس وهي في الصف الأول الابتدائي. ونسيت عما كان ذلك الشجار، إلا أنني أعلم يقينًا أنني أخطأت خطأً جسيمًا، وتناقرت مع الشخص الخطأ. تمتلك اختي منيرة شخصية فريدة، صقلت بشدة أثناء نموها، فأصبحت شخصية دقيقة، ذكية ودفاعية. تمتلك آراءً مختلفة عن الجميع، وتمتلك الشجاعة لطرحها والخوض فيها وإقناع الناس بها. وعلى العكس تمامًا كنت أنا، ولعل ذلك كان أساس شجارنا. تركتها تبكي ليلًا بعد ان انتصرت عليها بشكل غير متوقع؛ كونها تمتلك الدعم العائلي المتمثل بجدتي. دخلت مخدعي ونمت مبكرًا استعدادًا للمدرسة في الغد. استيقظت صباحًا، انتهيت من دورة المياه، اتجهت للبس المريول، وفي اللحظة التي رفعت بها مريولي، وجدته مقصوصًا من الأسفل بطريقة طولية حتى المنتصف، فأصبحت كأني أرتدي ستارة مطبخ أكثر من مريول. لم أكن أمتلك غيره، ولم أشعر بالخوف كما شعرت به ذلك الصباح، كيف سأخبر والدي بذلك؟ أولًا أن مريولي الوحيد غير قابل للإصلاح، وثانيًا أنني تشاجرت مع منيرة بشدة حتى أحست بوجوب الانتقام مني. خرجت من الغرفة ووجدت جميع إخوتي يفطرون على الأرض، بينهم والدتي التي تجهز منيرة للمدرسة. أخبرتها بأن مريولي ممزق، ولم تصدقني حتى أريتها إياه. وأثناء حواري أنا وأمي واستغرابنا الموضوع، ظلت منيرة بوجه جامد لا تنبس ببنت شفه. لم تعترف بالرغم من أن جميع الأصابع كانت تشير إليها، تقبّل والدي الموضوع شكل غريب، ولم يعلق بجدية لا على الشجار ولا على المريول، بل وأجازني من المدرسة حتى اشترينا مريولًا آخر في نهاية اليوم. لم تنتهي قصتنا هنا، بل وأضيف عليها أن منيرة أفسدت علي مريولًا آخر، ليس بنفس الطريقة؛ لأنها بدأت تتفنن في الموضوع. في أثناء جلوسنا صباحًا لتناول الفطور، تجلس أمامي منيرة، تشرب كوب حليبها الذي سرعان ما طار في الهواء، لا أتذكر الموضوع الي تحدثت به معها، لكنها أجابتني بأن رشقتني بما في الكوب من حليب. لم أغضب كثيرًا، لأنني أعرف أنني سأكون في إجازة من المدرسة بسبب حركتها، إلا أن والداي رفضا غيابي، ومسحت ما أستطيع مسحه من الحليب وذهبت للمدرسة منقوعة به.
بالحديث عن المدرسة، أتذكر بوضوح الفترة التي اشتهرت في أجهزة الايبود، ولم توجد أي فتاة في المدرسة آنذاك لم تمتلك واحدًا، إلا أنا بالطبع. وكنت بشكل غريب وغير مفهوم استجوب بشكل يومي من زميلاتي في الصف إن كنت قد حصلت على آيبود أو لا. أعتقد بأن ذلك كان معيارًا لمدى جدارتي في أن أصاحبهن، فلم أستطع أن أقول بأنني سأشتري واحدًا بعد نهاية العام الدراسي؛ لأن والدي اشترط علي أن يكون الجهاز في أيام الإجازة فقط، فلا توجد فائدة من اشتراءه حاليًا لأنني لن أستخدمه. فكنت يوميًا أٌقول:” أبوي بيجيبه لي بكرة.” أو أقول:” أبوي يقول ان العامل يقول خلصت وينتظر تجي من الرياض الأسبوع الجاي” وكانت تلك الطريقة الوحيدة للنجاة من التهميش. لا أتذكر كيف ولماذا اقتنع والدي بأن اشتريه قبل نهاية السنة، لكنني اشتريته أخيرًا ورفعت من نفسي درجة في السلم الاجتماعي في المدرسة. ولم يتوقف الموضوع هنا، بل أردت أن أثبت للجميع أن لدي واحدًا فعلًا، فقررت أن أقوم بتهريبه للمدرسة، وكان ذلك أفشل قرار أخذته في حياتي، ولم يجلب لي سوى العار ومغص البطن. قررت أن أضع الايبود في جانب حذائي الي يرتفع إلى منتصف ساقي. كانت تلك الأيام باردة، وكنت أرتدي حذاءً ذو ساق طويلة مناسب جدًا لتهريب الأشياء، بالإضافة إلى أنه يقي من البرد. لا أعرف كيف واتتني تلك الفكرة، لكنني كنت أخشى أن يتم تفتيشنا فيجدون الايبود في الشنطة؛ لذلك وضعته على مقربة مني. وتسلط الجميع ضدي آنذاك، قامت إحدى المعلمات بإلقاء محاضرة مطولة، وكنا نجلس على الأرض، وكانت ساقي تضغط على الايبود الذي حشر بجانبها، فكنت أعاني آلامًا مبرحة أثناء جلوسي. وكنت في غاية الاضطراب خشية أن يصدر الجهاز صوتًا، فامتلأ بطني بالغازات إثر اضطرابي، فأصبح قولوني يصدر أصوتًا شديدة العلو، وازداد بذلك توتري أضعافًا. ولم ينتهي الموضوع عند ذلك الحد، بل أجبرونا على أن نصلي الظهر قبل الخروج من المدرسة، فاضطررت لخلع حذائي ومستودعي الثمين. صليت بسرعة شديدة وعدت لارتداء حذائي. وبعد هذه المعاناة كلها، لم أستطع أن أقوم بتشغيله على مرأى من زميلاتي، لم نجد الوقت المناسب، ولا المكان الآمن؛ لذلك فقد انتهى يومي بأن عرف الجميع بأنني أحضرت جهازي الآيبود ولكن بدون أن يجدوا دليلًا لذلك.
كانت أكبر نكباتي وأشدها وقعًا علي هي العباءة، ارتديتها بشكل رسمي في الصف السادس الابتدائي، وكانت عباءة رأس طويلة شديدة الطول، وكان سبب اختيار والدي لتلك العباءة الطويلة أنني سأطول، وستكون العباءة مناسبة لي بعد أيام معدودة، ولكنني حتى هذه اللحظة أنا بنفس طولي الذي كنته بالصف السادس الابتدائي. إذ ازداد طول قامتي بسرعة شديدة في آخر سنتين في الابتدائية، وكنت من الطالبات الطويلات آنذاك، أجلس في نهاية الفصل، وأقوم بتشغيل البروجكتر. وأعتقد بأنني استهلكت كل هرمون النمو آنذاك، لذلك لم يزد طولي أنملة واحدة منذ ذلك الوقت. ولم أكن أصارع فقط طول العباءة، بل منظري ككل؛ حيث أنني كنت أرتدي عباءة الرأس مع طرحة تغطي منابت شعري كلها بدون أن أغطي وجهي. وكانت تلك استراتيجية من والدي لأتعود على العباءة، حيث أنني بعد أن أتقنت لف الطرحة ولبس الباءة غطيت وجهي، وكانت تغطية وجهي أرحم علي من أن أتركه مكشوفًا بمنظري ذاك. كوني أصبحت نسخة الشخصية الغريبة الأكولة الموجودة في فيلم – spirited away -. كنت شخصية شديدة الحركة، أحب اللعب واختراع الألعاب، وأمتلك أصدقاء كثر من الذكور، ليس تفضيلًا بل لأنني ولدت بين مجموعة منهم، ولم أمتلك خيارًا آخر في الحقيقة، وإلا من التي تكون في كامل وعيها وتصبح حارسة لفريق الأولاد؟ تلقيت الكثير من الأهداف، والكثير من الضربات بالكرة، وكم تمنيت أن نلعب بالعرائس بدلًا من ذلك. لكن بغمضة عين، تعيّن علي أن أكون أهدأ، أن أتعرف على عالم الفتيات الحقيقي، وأن أكون علاقات جديدة، ولم يكن ذلك سهلًا أبدًا.
في طريقي للبحث عن شيء مشترك لأقيم صداقات جديدة، اكتشفت جاستن بيبر. لم أعرف عنه شيء البتة، ولا أفهم ما تقول كلمات أغانيه، حتى أنني لا أعرف كيف اكتب اسمه، إذ أنني إذا أردت أن أسمع له شيئًا كنت أدخل المفضلة في اليوتيوب، أضغط على أول مقطع عرفته له، وانتقل بعدها للمشي في الاقتراحات. ولم أشعر تجاهه بأي شيء سوى أنه بطاقتي التي ستجعلني أقرب للفتيات في سني، إلا أنني بعد أن أخبرت إحدى قريباتي وأكبر معجباته، تشاجرت معي. وقالت لي بأنه ملكها، وأنني غبية لا أفهم ما يقول. وكانت تلك أولى اكتشافاتي لعالم المعجبين وعن عمق الارتباطات الوهمية التي قد يشعر بها أي شخص لفنانه المفضل. وكانت تلك المرة الأولى التي أشعر بها بالغيرة الحقيقية، أنها قادرة على فهم فنانها المفضل، وأنا لم أكن إلا هاوية، أدندن مع اللحن وأكتفي بالاستماع فقط. أدت بي تلك المشاجرة إلى تجربة أشياء أخرى، كأن أصبح مشجعة للهلال، أن اختار ياسر القحطاني ليكون لاعبي المفضل لكن ذلك أدى بي لمشاجرة أخرى جعلتني أبحث عن أناس آخرين لأكون معجبة بهم، أناس لا يعرفهم إلا أنا. وبذلك فسدت خطتي بأن أحرص على إيجاد إعجابات مشتركة تفضي لصداقات جديدة، وانتهى بي الحال انطوي أكثر على نفسي في مجتمعي العائلي أكثر فأكثر.
السنة الأخيرة في الابتدائية بالنسبة لي قد تكون أكثر السنوات إيلامًا خلال سنوات طفولتي. وقعت في مشاكل كثيرة، وجربت أشياء عديدة، تعلمت الكثير لكن بالطريقة الأصعب. لكنني بالرغم من هذا كله، أن أتعلم بالطريقة الأصعب في صغري لهو أفضل من أتعلمها على كبر. ولم تكن بالطبع كلها صعبة، بل ضحكت كثيرًا، أو كثيرًا جدًا، استمتعت بآخر سنواتي كطفلة حتى لم يتبق لي شيء آخر لفعله.
حتى الاثنين القادم، وحتى أن أتعافى من الذكريات التي اجتاحتني وقت كتابة هذه التدوينة، إلى اللقاء يا أصدقاء.