والدتي وأنا والمقص

ترتبط ذكرياتي المتعلقة بالمقصات بخالتي وهي تخبئ المقص خلف ظهرها. الشهر وعشرة أيام التي عشتها لدى خوالي لخمسة مرات تكرر فيها مشهد المقص لخمسة مرات أيضًا. لدى والدتي نوع من الفوبيا أو نوع من الكره للشعر الطويل، أو كما تقول في كل مرة تنتهي بها من -حرت- شعري :”أريح لي ولك” قاصدة بذلك الشعر القصير.

رُزقت كما رزق الأغلبية العظمى بشعر ناعم في مراحل حياتي الأولى. ولكن كما حدث للاغلبية أيضًا لا أعلم كيف ومتى وما هي الأسباب التي دعت شعري فجأة إلى التلوي، وبذلك ودعت الشعر الناعم المنسدل إلى الشعر المتلولو -أو كما تقول جدتي شعر مؤخرة العنز-.

وكان رد فعل والدتي الأول لشعري الناعم هي قصه. فلم تكن تتوقع ولو لواحد بالمئة أن يكون شعر ابنتها الأولى ناعمًا، فلم تكن هي أو أي واحدة من أخواتها تملك شعرًا ناعمًا منسدلًا. فلم تكن ممن يفضلن التربيط أو التسريحات، ولفرط سعادتها بشعري المنسدل، أدمنت قصه.

في كل مرة أرى مقصًا بجانب وسادة والدتي في مقلط منزل خوالي، أجهز نفسي للقص. ولم تكن والدتي تهتم لمن سيقوم بقصه، فالأهم هو أن يبقى قصيرًا، خالتي الكبيرة، خالتي الصغرى، زوجة خالي، حلاّق خالي، صالون حلاقة والدي، أي شخص، وأي مكان، لطالما يبقى قصيرًا.

وفي مرحلة ما، وكما يحدث لجميع الأطفال، بدأت بمعرفة العالم، ومقارنة عالمي بعوالم أخرى كثيرة، وخصوصًا أقراني، وفي تلك الفترة، جميع الفتيات كن ذوات شعر طويل أملس، إلا أنا، لا أملك سوى قصة البادية. وهذه كانت نقطة التحول.

رفضت، صرخت، بكيت، رميت المقص، حتى أنني عضضت والدتي في إحدى المرات. وفي النفاس القبل الأخير لوالدتي، وبينما أسبح في مسبح بلاستيكي بحوش خوالي، أرى المقلط مفتوحًا على مصراعيه، وكان آنذاك يملك بابًا على الحوش مباشرة، وأستطيع أن أرى خالاتي الثلاث ووالدتي يتهامسن، ويضحكن، وتقول خالتي لولو الوسطى لأمي:”ما عليك” تناديني والدتي:”سارة تعالي يكفي سباحة” أنهض، وأقف أمام الباب، أستشعر خطرًا محدقًا، أرى يد خالتي لولو وراء ظهرها، تناديني:”تعالي شوي بكلمك” وخالتي منى تضحك وتضع يدها على فمها وتراقب اختها لولو بترقب، بينما والدتي تمثّل دورها بعدم الاكتراث. أجيب:”أدري إنكم بتقصون شعري ومعكم مقص بس ما أبي أقصه ولا راح أجي.” أعود أدراجي للمسبح، بينما أستطيع التأكد تمامًا من أن والدتي كانت لتقول :”قطش من هالشطانة”.

وفي منتصف رحلة شعري للبحث عن هويته، ما بين الناعم والمتلولو، في الصف الثالث الابتدائي، تعرضت للتنمر إثر تحدي بيني وبين ابنة استاذة العربي، فلم يكن شعرها يبحث عن جذوره وأصله كما كان شعري، وإنما كان واثقًا، ناعمًا، لا يحتاج إلى حرارة لتصفيفه. تقول -ر-:”شعري أنعم شعر بالمدرسة.” وأقول أنا:”مين قال؟ أنا أمي اذا استشورت شعري يصير ناعم بعد!” قالت -ر-:”لا حتى لو استشورتيه مية مرة شعري أنعم من شعرك.” ولأن الاستشوار كان للمناسبات المهمة فقد قررت بأن يكون اكتشاف أنعم شعر في اليوم المفتوح، أستطيع استغلاله لجعل والدتي تستشور شعري. جاء اليوم المفتوح، ودخلت -ر- المدرسة تلتفت يمينًا ويسارًا بشعرها القصير الناعم، وكأنني أراها الآن أمامي، بالسرعة البطيئة، يعكس شعرها أشعة الشمس على وجهي من لمعانه، وتزيّنه بشباصة وردية في الجهة اليمنى من رأسها، وتبتسم بثقة. تصل إلي بشعبها المختار من طالبات فصلنا ذوات الشعر الناعم، ولا أعلم كيف لطالبة ابتدائية أن تأتي بفكرة التصويتات لأنعم شعر، تقول لهن:”المسوا شعري وألمسوا شعر سارة، وقولوا من أكثر وحدة شعرها ناعم، مع إن شعري ناعم أكثر وباين بس المسوا.” ووقفت هناك، في الساحة الاسمنتية المتشققة، يلمس شعري من عشرات الأيادي، رغم خسارتي الواضحة منذ البداية.

أمضيت سنواتي بعدها بشعر طويل، ما بين جديلة وذيل حصان وكعكة، ونظرًا لديموقراطية منزلنا فلم أستطع أبدًا قصه حتى عندما أردت ذلك. إلى حين المرحلة الثانوية، وفي صباح أول يوم دراسي لأول يوم في أول ثانوي، لم استطع رؤية شعري طويلًا في المرآة، قصصته وربطته في نصف ذيل حصان، لم تعلم أمي عن ذلك إلا ظهرًا، وقالت:”أخيرًا! كفو بس يا ويلك من أبوك” لا أتذكر ردة فعل والدي، ولكن أستطيع رؤية تكشيرته المعتادة. ولم أعد لقصه إلا في ثاني ثانوي، وكان قد وصل إلى كوع يدي، واستغليت سفر والدي وقصصته إلى تحت أذني، وقالت والدتي:”يجنننن أحسن ما سويتي” ولم أعد لتطويله حتى هذه اللحظة. وأظنني أصبت بعدوى الشعر القصير من والدتي، وأستطيع تفهمها تمامًا.

*حاشية

نصرني ربي في المرحلة المتوسطة، فقد جمعتني الدنيا ب -ر- ذات الشعر الناعم، وفي تلك الأوقات كان الشعر الأجعد هو الموضة، لذلك كنت محط الأضواء في المدرسة. كنت أعقل، أكثر رزانه وهدوءًا بالطبع من الابتدائية، تجلس -ر- أمامي وتقول:”ياخي ودي اسوي شعري نفسك وأحاول أجدله وألففه وأحط سفن ولا ينفع، كيف تسوينه كذا؟” ابتسم في داخلي بينما أحافظ على وجهي المشفق على سالفتها الحزينة وأقول:”هذا طبيعي ما سويت فيه شيء” بينما أفكر :”صدق إنها ما تقدر النعمة” وسبحان الله محد راضي باللي عنده.

*حاشية ثانية

الفيلم الذي ذكرته بالتدوينة السابقة كان-the princess diary- ولم يلق استحساني في الحقيقة، فقد تحمست على غير فائدة. وأبحث الآن عن فيلم آخر يحوي فساتين وتسريحات شعر أفضل من هذا، ويستحق أن يسمى بفيلم حفلات المبيت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top