على الرغم من معرفتي بعمق الكتاب إلا أنني قلت في نفسي بأن صفحاته قليلة لن تؤثر على تركيزي وسأتمهل بقراءتها لأتفادى الضياع، لكن لتل دو آي نو، كالعادة، انتهيت منه بساعتين، ورأس تملأه الأسئلة والآلام.
المدعو هـ هـ وهو الراوي وبطل القصة، ينضم إلى مجموعة من الناس تدعى الرابطة، تتكون الرابطة من أشخاص حقيقيين وغير حقيقيين، مشاهير ومجهولين، انتحاريين وآخرين يحبون الحياة. تختلف أهداف المنضمين لهذه الرابطة، البحث عن كنز، الزواج من ملكة جمال، أو لزيارة القدس وزراعة الزيتون، ولكن يتفقون جميعًا على الانقياد لأفكار هذه الرابطة والمشي تحت قيادتها. يحاول البطل أن روي قصته منذ انضمامه للرابطة، لكنه لا يستطيع إيجاد نقطة للبدأ منها وكما يقول:”وأنا ما أكاد أبدأ، وهو حادث اختفاء ليون، وبدلًا من قطعة قماش فإنني أمسك بيدي كبة من ألف خيط معقدة ستشغل مئات الأيدي لسنوات لحلها وتخليصها، حتى لو لم ينقطع خيط ويتلاشى بين الأصابع حالما يتم الإمساك به وسحبه.” يختفي ليون المساعد والخادم لرحلة هؤلاء المسافرين وينقسمون في البحث عنه لكن لا أثر، يتناوشون فيما بينهم إلى أن يفترقون جميعًا، يترك البعض الرابطة، وآخرون يتبعون طريق خاص للشرق، وما يصعّب على بطلنا كتابة رحلته هذه هو انحيازه لفكرة اختفاء ليون كفكرة أساسية لتدوين هذه الرحلة على الورق، فكان يؤمن بأنه لا يوجد كتاب بدون فكرة أساسية للبدء منها، لكن اختفاء ليون لا تصح كفكرة أساسية له للبدء بها، وللأسف فإن ليون لا يكف عن الجري فوق رأسه.
الشرق على حد قوله كان:”الشرق لم يكن مجرد بلاد أو شيء جغرافي، بل كان وطن الروح وشبابها. كان الشرق في كل مكان ولم يكن في أي مكان.” وعند قراءتي لهذا السطر تخيلت المسافرين في الرابطة يدورون حول الكرة الأرضية بغير انقطاع، لكن اتضح لي بعد قراءتي عن حياة هيسه بعد انتهائي من الكتاب هو أنه من عادته أن يلتقي مع عدد من أصحابه في بيوتهم، ويزورون بعضهم بعضًا مشكلين رابطة ما، ولم يتوقف تضمينه لرابطته هذه رمزيًا في الكتاب، بل وحتى أسماء أصدقاءه أو اشتقاقات من أسماءهم في الرواية. وهذا يعني بأن الرواية تفسير رمزي لحياة هيسه وما كان الشرق إلا أهدافه وتأملاته التي كان يرسمها في أحاديثه مع أصدقاءه.
الكتاب يملأه الغموض، لكن بطريقة ما وكتعويذة يلقيها على القارئ فإن القليل من الناس سيضعونه أرضًا أنا متأكدة من ذلك. لم أخفض بصري عنه إلا للحظات، كنت آخذ وقفات قصيرة بين فصل وآخر لأستطيع تشرّب الأفكار التي قرأتها، لأستطيع تحليلها لاحقًا. ما أثار اهتمامي هو وصفه لحالات نشوة وهذيان غريبة، وكأنه تحت تأثير مخدر ما، وهذا ما اكتشتفه لاحقًا بأن هيسه كان تحت المجهر لاستقصاء تناوله لأحد المخدرات. تتداخل القصة ببعضها البعض بشكل عجيب، الماضي بالحاضر، موزارت يصافح أفلاطون، سكك حديدية وهواتف، أقرأ الجمل كما لو كنت أبلغ عشرة أعوام، أرتدي نظارات شمسية بخمسة ريالات في منتصف الليل، على أرض عشبية رطبة، أدور على نفسي إلى أن أسقط أرضًا، هذا ما شعرت به تمامًا وأنا أقرأ كلمات هيسه.
أفضل ما وجدت بالكتاب الحوارات بين الشخصيات، والأسلوب السردي، لكن لسوء الحظ فقد كانت الحوارات قصيرة وتعد على الأصابع، وأفضل حوار كان بين هـ هـ وصديقه لوكاس.
أخيرًا، يستطيع أي شخص إسقاط أي كلمة بدلًا من الشرق، حلم، هدف أو معنى للحياة. الكتاب بأكمله رحلتنا نحو إيجاد معنى لحياتنا، عن طريقنا نحوه، عن رابطتنا التي تؤوينا، عن مشاعرنا التي توجهنا، والضياع الذي يهدد حياتنا، سواء بتواجد ليون ليقودنا نحوه أو باختفاءه.
الأكيد بعد قراءتي لهذه الرواية هو قراءتي لداميان.
اقتباسات:
“ألا يحاول كل جيل، بوسائل القمع والإخفاء والسخرية، أن يمحو ما كان الجيل السابق يعتبره مهمًا جدًا”
“لماذا يبدو الفنانون أحيانًا نصف أحياء بينما تبدو مخلوقاتهم حية بما لا يقبل الشك. نظر إلي ليون مستغربًا سؤالي. ثم ترك البودل الذي يحتضنه بين ذراعيه، وقال: هكذا الأمهات أيضًا. حين يلدن أولادهن ويعطينهم الحليب والجمال والقوة هن أنفسهن يصبحن غير مهماتٍ وما من أحد يسأل عنهن بعد ذلك”
“لأنني أعرف دائمًا أن الإيمان أقوى مما يسمى بالواقع”
“من من الناس يعرف حقًا الآخر أو يعرف حتى نفسه؟”
“حين تصبح المعاناة قاسية بالقدر الكافي فإن المرء يتقدم”
“اليأس هو نتيجة كل محاولة مخلصة لفهم الإنسانية وتبريرها”