“أفضل شيء تسويه إذا ما عرفت وش تسوي، تسوي نفسك انك تعرف وش تسوي”

ليلة صيفية بنسيم بارد، ورائحة قوية ونفاثة من حوش الغنم تجد طريقها بلا صعوبة إلى الدكة، تتسلل إلى الملابس والجلسة الحمراء والأغطية، يتعطر كل شيء بها، ويتأثر التفكير بها أحيانًا. فيغدو التفكير غنميًا أثناء لعب البلوت، إلى جانب الاستراتيجيات الغبية للعب، تصبح ردود الفعل حيوانية هيجاء، تنقلب أحيانًا إلى ساحة للصراع والتناطح، لفظيًا وفعليًا. إلا أن ذلك لم يمنعهم من تغيير مكان الدكة، وهي بناء يمكن تغيير مكانه بسهولة، فهي مجرد شحنة من التراب وضعت خلف حوش الغنم بمسافة ليلقي بظله عليها، ولم يحسب حساب رائحته بالطبع. سياج من صفائح الحديد يحيط بشحنة التراب تلك على شكل مربع، ووظيفته الوحيدة دعم ظهر الجلسة الحمراء الثقيلة من السقوط. وبمكونات بسيطة كتلك، تتوفر جلسة أسبوعية ليلية يفرّغ بها الرجال كل أحداث الأسبوع، ويمارسون هواية الطبخ التي لم تتطور قط، إلا لفئة قليلة من الرجال الذين تخصصوا في أنواع الكبسات وطهي اللحم لليالي كهذه الليالي. 

يتجمع الإخوة وأبناء العمومة كلهم في تلك الدكة، ولا تستطيع الأشجار والغطاء النباتي الأخضر في المزرعة من توفير الأكسجين الكافي لذلك العدد، فتجد أغلبهم يسعلون، من قلة الأكسجين مرة، ومن رائحة الغنم والحمام مرات أخرى. وبتوجيه من الجد، لم يتخلّف أي حفيد، فأمر أولاده كلهم بأن يحضروا أبناءهم، لتوطيد العلاقات، والتي تسوء في كل مرة يجتمعون بها ويلعبون كرة القدم. بحضورهم تتوفر فرصة أكبر للجد لخداع أغلبهم والضحك على ردود أفعالهم، بدون التفكير بعواقب تلك الخدع على مستقبلهم، وأن أغلبها ستسبب لهم مشاكل نفسية وصدمات تؤرقهم ليلًا. لكن التفكير بعواقب تلك الفكرة يحتاج ليوم آخر بطوله، وأما في ذلك اليوم، فلا يوجد أهم من صيد الحمام وإحضاره من الشبك، وتحضير حفرة المندي لطهيه. 

يقسّم الجد المهمات على الأبناء، أربعة يقومون بالطبخ، وهم نفسهم الذين يطبخون في كل مرة، وهم نفسهم الذين يحلفون بأن المرة القادمة سيكون الملح موزونًا، والرز نثريًا، لكنهم يفشلون باستمرار. يتميزون بأنهم لا يتطوعون أبدًا، بل يجب إلقاء الضوء على مهاراتهم وتبهيرها، لإرضاء غرورهم أولًا، وليقموا بكل شيء لوحدهم بدون طلب المساعدة من البقية اعتزازًا بالنفس، فيرتاح الجد من مسألة فلان عمل أكثر من فلان، وفلان لا يساعد فلان في الطبخ. وأما عن عملية صيد الحمام من الشبك، فيعطيها الجد لأحفاده، يخبرهم بأن أفضلها الحمام الذي يبقى في عشه ولا يطير فور دخولهم الشبك؛ فهو حديث عهد في الطيران لصغر سنه، وقد لا يكون اكتمل ريشه بعد. وحمام بتلك المواصفات ألذ عند طبخه من باقي الحمام، فلحمه ليّن ولا يأخذ وقتًا في الطهي. 

يقول الجد:”خوذوا إبراهيم معكم.” 

يتأفف قائد مجموعة صيد الحمام، فالحفيد الأكبر لا يقبل منافسة آخر العنقود له، كون إبراهيم أصغر حفيد بالعائلة يعطيه الأفضلية في كل شيء، وتسلّط عليه الأضواء في كل مكان، وتصبح أصغر أفعاله إنجازات يحتفى بها، كالمرة التي ذهب بها فمفرده لدورة المياه، فتناقل الخبر كل أفراد العائلة، مهنئون ومباركون. بالإضافة إلى حفل التخرج الضخم الذي أقيم في استراحة فخمة نظرًا لتخرجه من الصف السادس الابتدائي. ومؤخرًا الكعكة التي طبعت عليها صورته عندما حصل على الامتياز بنسبة خمسة وتسعين بالمئة في الصف الأول متوسط. وتلك الاحتفالات كلها لم تقدم لأي حفيد غيره، بعيدًا عن الفتيات، فالفتيات أيامهن كلها حفلات، وأي إنجاز بسيط كإتقان صنع الكعك يستحق احتفالًا منهن بكعكة جاهزة. 

يمشي سبعة من الأولاد متقاربين في العمر وحجم الرأس إلى شبك حمام كبير، شبك حديدي وبنافذة علوية كبيرة مفتوحة. على كل جدرانه تصطف علب طلاء للجدران، في كل منها أعشاش يسكنها الحمام. باقترابهم من الباب، يقسم الحفيد الأكبر المهمات على أتباعه، يعطي صندوق الأندومي لواحد منهم، وتكمن مهمته بالحضور سريعًا وفتح الصندوق في اللحظة التي يمسكون فيها بحمامة، وإعادة غلقه بإحكام عند الانتهاء من رمي الحمامة فيه. ويعطي رئيس المهمة إبراهيم المهمة الأسهل، أن يقف لدى الباب ممسكًا بطرفه من الداخل، ليمنعه من أن ينفتح على مصراعيه ويهرب الحمام من خلاله؛ كونه لا يغلق ولا ينفتح إلا من الخارج. وأما عن البقية، فمهمتهم أن يمسكوا بالحمام. 

استغرقت مهمتهم تلك حوالي الأربعين دقيقة، فالحمام استمر بالطيران، والظلمة جعلتهم يطؤون ماء شرب الحمام الأخضر مرارًا، تصدم بهم أجنحة الحمام، ويتصادمون هم أنفسهم فيما بينهم، وأما عن توصيات الجد بالحمام غير مكتمل النمو، فهي في أدراج الرياح. وفي اللحظة التي امتلأ بها صندوق الأندومي واستطاعوا عد الحمام المطلوب، هموا بالخروج سريعًا، أشار الحفيد الأكبر لأتباعه بالخروج قبله، طالبًا من إبراهيم أن يستمر في إمساك الباب ريثما يخرج الجميع، وفي جزء من الثانية، وكآخر فرد يخرج قبل إبراهيم، دفع إبراهيم إلى داخل الشبك، وأغلق عليه الباب من الخارج. وبوسط ضحكاتهم، لا يسمع سوى هدير الحمام الهائج، بلا أي صوت لإبراهيم الذي بدأ يتوعد ويهدد وانتهى بالبكاء المكتوم. غادر الجميع الشبك، تاركين إبراهيم خلفهم يطير الحمام فوق رأسه في دوائر. 

تركوه لدقائق معدودة قبل أن يعودوا إليه، وجدوه في زاوية الشبك، يجلس على الأرض، ورأسه بين ركبتيه، واضعًا يديه على أذنيه، يبكي بصمت بعد أن جف حلقه من طلب النجدة. يخرج من الشبك غاضبًا، يحاول ضرب الحفيد الأكبر لكنه يصد ضربة إبراهيم بساعده الضخم فقط، يضحك ويمسك بيده الأخرى قبضة إبراهيم الموجهة إليه، يستسلم إبراهيم عن فرصة الانتقام ويذهب سريعًا للدكة، يرفض إعلان هزيمته، ويحاول أن يخبئ دموعه التي تحاول فضحه. يأخذ بطانية خفيفة، ويخبر والده بأنه سيأخذ غفوة إلى حين انتهاء العشاء. 

يرفع إبراهيم رأسه ليجد الجميع يبحث عنه، يقولون:”إبراهيم باالله عليك تعال.” يذهب إبراهيم لمكان قريب من الدكة، يفرك رأسه وعينيه. يتحلّق عمومته وأبناؤهم حول الحفيد الأكبر الغير قادر على ذبح الحمامة بين يديه، يأمرونه:”ياالله يا إبراهيم دورك.” يقول إبراهيم في نفسه:” أفضل شيء تسويه إذا ما عرفت وش تسوي، تسوي نفسك انك تعرف وش تسوي” يطلب من الواقفين حوله سكينًا أخرى، فتلك التي يحملها قريبه غير حادة ولا تنفع للذبح. يحضرون له سكينًأ أخرى ويلمسها بطرف اصبعه ليتأكد من حدتها. يمسك الحمامة من جناحيها ويضعها على جنبها. لا يستطيع أن يمسك بها بيد وينحرها بيد، فيضع جناحيها بين اصبعي قدمه السبابة والابهام، يسمع صيحات الجميع من حوله، يشجعونه وينتظرون اللحظة الأخيرة للعرض. يسمي باالله وينظر للحفيد الأكبر أمامه قبل أن يقطع رأس الحمامة، يتبادلان النظرات لثواني معدودة قبل أن يضع السكين على عنق الحمامة، ويأخذ نفسًا، وقبل أن يقطع رأسها بلحظات يستيقظ بعد سماعه لاسمه، يقول والده:” ياالله قم ما يكفي نوم، قم ساعد عمانك واخلط معهم البيرة للعشاء، ما بقى إلا شوي ويزين.”

*حاشية

كتبت هذه القصة من ثلاث كلمات مفتاحية (حمامة، بيرة، حلم)، وتحت وطأة التعب، لكن أهم شيء ما يضيع علي يوم الاثنين بدون نشر 🙂

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top