قمراء

قليلة هي الكراسي، والمسند الوحيد المتوفر يستحوذ عليه جدي. أنوّع بين انحناءات ظهري لأستطيع التحمل لمدة أطول، أتذكر نصيحة لعارضة أزياء على التيكتوك تقول فيها:”أهم شيء باللبس، استقامة الظهر، هي اللي تعطيك شكل قبل اللبس.” يضيق خلقي بتذكري لكلامها، أعدل ظهري، يؤلمني بعد دقائق معدودة وأعود للإنحناء. وبعد تخمة العشاء، وبعد مغادرة العوائل التي كانت تحيط بنا من كل الجهات، تخف الضوضاء، وأشعر بنسيم عليل، يحمل معه رائحة عشب مروي حديثًا، استسلمت للارهاق وقررت أن استلقي على السجاد بين ترامس القهوة والشاي والفناجين الموزعة في كل مكان، أراقب القمر، وانتظر أن تنخدع والدتي بأنني نائمة؛ لأهجم عليها عند أول شكوى تشتكيني بها لجدتي. وفي اللحظة التي وجدت فيها الوضعية المناسبة، قالت جدتي:”ياالله مشينا.” أخبرتها بأنني للتو استلقيت لأراقب القمر، وأنني لست جاهزة أبدًا للتحرك من مكاني، إلا أنها قالت جازمة:”لا أنا أوريك الحين القمرا بمكان أزين من هنا.” نهضت كما نهض الجميع، وتقاسمنا الأغراض للعودة بها إلى السيارة، وانطلقنا من كثيب رمليٍ مهيب في المطل الشرقي، إلى كثبان رملية أخرى في “الزهلولة” كما تقول جدتي.

لم يسبق لي أن زرت الزهلولة، ولا أعلم عنها سوى اسمها، وذلك من أحاديث خوالي الذين لا ينقطعون عن زيارتها كونها مكان ممتاز لكشتة شتوية. ظننت بأننا سنسير لدقيقتين، ظننت بأننا سنأخذ طريق مألوف ويمشي فوقه البشر، ظننت بأننا سنستمتع، إلا أننا سرنا لمدة ربع ساعة، ومشينا على طريق لا يمشي فوقه غيرنا نحن والأبل وسكان العالم الآخر، وقضيت وقتي في السيارة أقرأ أذكاري وأدعو بأن نعود لمنزلنا سالمين.

طريق من مسارين فقط، بدون أي إنارة، وجدي منهمك في الأحاديث. لا يوجد أخطر من جد منهمك في السوالف في طريق بري، ولكن لأننا عائلة غير عادية – أعني أكثر معنى إيجابي للغير عادية – ونهوى أن نتجاوز التوقعات في كل شيء، كانت خطة جدتي كالتالي:”يا حمود، طف لمبات السيارة عشان سارة تشوف القمراء زين.” نمشي في طريق من مسارين فقط، وجدي منهمك في الأحاديث، وبسيارة بدون إضاءة. بدلاً من أركز على القمر وتأمله، وبعيدًا عن كوني أجلس في منتصف السيارة، فلا أستطيع الرؤية من أي جانب، أنهمكت في قراءة الأدعية، ومر شريط حياتي سريعًا أمامي، وتخيلت زوجي الحبيب يحاول أن يسب الزهلولة، لكنه لا يستطيع؛ كونه في شك من اسمها. أيقنت أنني يجب أن أحاول على الأقل للنجاة، ولا أستسلم حرجًا من اعترافي بالخوف. قلت بصوت مرتجف:”وش رايك بابا حمود تشغّل اللمبات؟” قالت جدتي:” الحين انتِ من جدتس خايفة؟ ما هنا إلا العافية.” وقال جدي مشجعًا:”ترا ما فيه إلا حنا، من بيجي بهالطريق هالحزة.” وكانت طمأنته هذه بابًا لمخاوف أكثر. تذكرت حديث عمتي عن قطاع الطرق، وذكرتني منيرة أختي برشاش، وذكرني أخي جريس بفيلم ناقة، وتذكرت أنا قصص الجن التي كانت تحكيها ابنة عمي. وما يزيد الطين بلة، قال جدي مباغتًا جدتي:”عمشاء تدرين إني ما أشوف؟ أحس أن قدامنا يا ناقة يا خروف.” ولم يكن أمامنا لا ناقة ولا خروف، ولا أدري أيجب علي أن أقلق وقتها أو أن أفرح. وفي أثناء هذا كله، يسقط هاتف جدي عند قدميه، ينحني ليحضره، يقود بيد واحدة ويد أخرى تجول في أسفل مقعده، ونمثّل نحن عيناه ورأسه، ومع أنني لا أصلح لعملية كتلك؛ لأنني أصبحت أتوهم الخراف والإبل تقطع الطريق، فلا أملك إلا الدعاء، ودعيت من كل قلبي أن نصل إلى الزهلولة في أقرب وقت.

لم تكن الزهلولة هي محطة النجاة كما كنت أرجو، بل كانت لقاء آخر مع الخوف. نمشي باتجاه طريق منحدرة، غير معبّدة، بلا إضاءة، نغوص بين كثبان رملية، كما لو كنا ندخل تحت موجة كبيرة، تغطينا التربة من كل الجهات. وفجأة، وجدنا أتلانتس، مجموعة من البيوت والمزارع يتوسطها جامع فخم، تميزت تلك البيوت بأنها من طابق واحد وأما المزارع فهي بلا أسوار أو تنظيم، فلا ندري إن كنا دخلنا مزرعة أم خرجنا منها. ندخل في شارع ضيّق، ولا أظنه شارع بل ساحة منزل، نتأمل أسلوب العمارة والأثاث الذي وضع بأماكن عشوائية عند كل زاوية. وعلى كرسي معدني طويل، نرى قدم بشرية واحدة، نمعن النظر أكثر، لنجد يد تتمدد على حافة الكرسي، شخص نائم! في الشارع! ولا مشكلة في كونه نائمًا، إنما المشكلة في مكانه، ولكن ذلك يدعم فرضيتي بأننا دخلنا ساحة المنزل وليس الشارع. يكمل جدي ضياعه في المكان، أخبره بأننا اكتفينا، لكنه يرد علي بأنه يجب أن أشاهد المكان كاملًا، وحاولت أن أتسلى بالاكتشاف أكثر، إلا أن لقطة خروج الجني من بئر القرية التي ذهب لها الطلاب في رحلة مدرسية خلال حلقة طاش ما طاش يتكرر في ذهني. وخشيت أن يخرج الجني من إحدى الأعشاش التي تتناثر في كل مكان، قالت جدتي:”هاه سارة شفتي القمراء زين وشفتي زهلولة؟” ولم أصدق ما تسمعه أذناي، أخيرًا جاء الفرج.

في طريق العودة للمنزل، سألني جدي إن كنت أعرف طريقًا مختصرًا للبيت، أجبته:”ازهلها.” وبدلًا من أن يكون طريق العودة خمس دقائق، أصبح ٢٨ دقيقة. أضعت البيت.

نسلك هذا الطريق منذ عشر سنوات، وسلكته أنا خصيصًا بشكل يومي أثناء دراستي في الجامعة، إلا أنني أضعت جدي، ولا أعلم كيف لي أن أضيع فعلًا. إلا أنني أعزو ذلك إلى حرصي وقتها على الرد على إشعارات السناب تشات، وذلك ما جعلني أفقد انتباهي لتخطينا للمنعطف، فأمرت جدي أن :”ابتل سيدة، مرة امش سيدة لا توقف.” ومشينا بشكل مستقيم، لدقائق طويلة، ولم يظهر المنعطف الذي أعرف. فتحت قوقل ماب، لأجد منزلنا يبعد ٢٨ دقيقة. وليتنا من حجنا سالمين.

توقفت السيارة أمام الباب، نزل الجميع، تأخرت في النزول لأودع جداي، ودعتهم واعتذرت منهم على السهر الذي سهرناه وعلى الضياع الذي ضعناه. قال جدي:”أهم شيء عندي وناستكم” وكانت تلك الجملة أفضل ما سمعت في ذلك اليوم.

وحتى نجد مكانًا أفضل لرؤية البدر بشكل واضح بدون أن نسلك طرقًا خطرة، إلى اللقاء يا أصدقاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top