الواحدة ظهرًا، أفكر بالطهي كتعبير للحب. خس مغسول جيدًا، لدرجة ظهور انعكاسك عليه، فواكة مصفوفة على شكل قلب، الطبخ بدون ثوم أو بصل حسب تفضيلات الضيف، إضافة الهيل للقهوة أو تركه، خضار طازجة، وبطاطس مهروس بشكل ممتاز وببهارات متوازنة. ولا يتوقف التعبير عن الحب بالطهي عند اختيار المكونات وتذكر التفضيلات فقط، وإنما باختيار أفضل الأطباق وأدوات المائدة. أتذكر في طفولتي صخب حضور صديقات جدتي وضيوفها، تخرج جدتي مفتاح مجلس النساء آنذاك، الذي لا يفتح إلا بحضور الشخصيات الهامة جدًا، وتفرش طاولاته الجانبية بمفارش تحتفظ بها بغرفتها، تذهب للمطبخ وتفتح صناديق تحوي على أواني تمر زجاجية، وفناجين قهوة جديدة وبيالات شاي مزخرفة ثقيلة. تنتقل بعدها إلى الطهي، فتطهو ما تعتبره المفضل لدى ضيفتها، أحيانًا تعد الجريش، الذي تستيقظ لإعداده منذ ساعات الصباح الأولى، وتعاود على تحريكه كل ساعة. وأحيانًا تعد القبابيط التي يفضلها أولادها، تجلس في الليلة السابقة لقدومهم تعجن وتكوّر العجين وتسطح الكرة بيدها، وتضعها في الفريزر بعلبة تمر بلاستيكية، لتصبح جاهزة للطبخ في اليوم الذي يليه. وتعد لنا أنا وإخوتي البيض المقلي بكل الإضافات السخيفة التي نفضلها آنذاك، بالرغم من أنها لا تأكله معنا، إلا أنها تجلس معنا على نفس السفرة، وتتبادل معنا أطراف الحديث، مع حرصها على أن نتناول الصحن كاملًا. وأتذكر أنها كانت تحرص على أن يتوفر الكراث لضيوفها الذين يفضلونه، وهم بالطبع أشد الضيوف قربًا لها، الذين لا تمانع معهم أن يتعطروا جميعًا برائحة الكراث بغير خجل. وأتذكرها كما كان ذلك بالأمس، تحرص على إخراج البطيخة الباردة عند تواجد أحفادها وأخواتها، لتبرد عليهم حر الصيف، ولتتشارك معهم حلاوة المذاق.
قد تكون لغة الحب الخاصة بالطهي أعقد مما يتصور البعض، فهي تحتاج ذاكرة قوية، ومهارة عالية وشجاعة. ففي الغالب، يتعلم الطاهي وصفة جديدة كليًا من أجل ضيوفه أو محبوبه. ويتطلب الموضوع خروجًا من منطقة الراحة، من الوصفات المعتادة التي يحفظها الطاهي ظهرًا عن قلب، إلى وصفات معقدة من الموالح والسلطات الغريبة إلى الحلويات التي تأخذ ثلاثة أيام في الثلاجة بأربع طبقات مختلفة. وتبرز أبهى صور المحبة عند إعداد طبق يكفي ثمانية أشخاص أو أكثر لمناسبة عائلية، ويقتطع منه أثناء الإعداد جزء صغير بدون بصل أو ثوم أو طماطم لمن لا يحبها من أفراد العائلة.
أحب الشكولاته بالفواكة، وأعشق الحلويات التي تغطيها الفواكة الطازجة. أتذكر في واحدة من صباحات المرحلة الثانوية، فاجأتني صديقتي غادة بقطعتين شوكلاتة بالبرتقال مستوردة، لم تتذوقها، ولكنها وجدتها في السوق واشترتها لي، كوني أعلن بصخب للجميع تفضيلي الخاص لهذه الأنواع. وأتذكر طعمها إلى اليوم، لا لكونها مميزة فقط، ولكنها كانت تعبيرًا بسيطًا للحب فاجأني أنني وتفضيلاتي البسيطة لم نكن في طي النسيان. بعد المرحلة الثانوية، وتفرقنا في الجامعة، لم تنس صديقتي نجلا أنني أحب هذه الأنواع مع الحلويات، وفاجأتني هي أيضًا في يوم من الأيام بكيس شكولاته منوّع بنكهات الفواكة. الحب المتعلق بالطعام مؤثر، ويعطيني انطباعًا أن الشخص مهتم في تفاصيل غيره، ولديه الاستعداد للبحث والاستقصاء لإيجاد ما يفضله أحباؤه في أي مكان، ليمنحه تجربة استثنائية وذكرى لا تنسى.
أتذكر بعض اللحظات في حياتي ببعض المذاقات، أتذكر الابتدائية بنكهة كعك شديدة الحلاوة، مغلفة باللوز ومغطاة من الأعلى بالكريمة. وأتذكر لحظات طفولتي الأولى بعنب حلو، وبطيخ بارد، يعطيني إياهما جدي بيده. وأما سنوات مراهقتي كلها أتذكرها بورق العنب الحامض الحلو، وبحلا الطبقات، وببسكويت الكندر أبو اصبعين والكتكات. وأما سنواتي الجامعية كلها فكانت بطعم قهوة البندق وكبسة والدتي بعد انتهاء اليوم الدراسي.
تولد لغة الحب المتعلقة بالطعام بعض العادات والطبائع، أبرمت اتفاقًا مع زوجي على أن نأكل أول لقمة دائمًا بنفس الوقت، لنعيش تأثيرها بنفس التوقيت. كما أتبادل أنا وخالاتي أنصاف وجباتنا مع بعضنا البعض. نطلب طلبات مختلفة، ونقتسم كلنا أجزاءً من وجبات الجميع. وعند الغداء، نجمع أنا وإخوتي قبل البدء كل الزبيب الموجود في الصحن ونضعه بجهة والدي، كونه الوحيد الذي يحبه، بدون أن يطلب منا والدي ذلك. تضع والدتي في صحني الكشنة، وأضع في صحن منيرة أختي جلد الدجاجة، وهذه كلها كقواعد متفق عليها خاصة بالأكل وتفضيلاته.
لا أقول بأنني مفتونة في الطعام، إلا أنني أقدره وأعطيه وقته الكامل وأحاول أن تكون كل سفرة أكون أنا القائمة عليها تجربة لا تنسى. سواء كان ذلك من مذاق أو تقديم. وأما بالحديث عن التقديم فأنا في البدايات، في مرحلة وضع البقدونس فوق أي طبخة للتزيين، فأضع كل رهاني بالمذاق. أحب أن أطهو بدلًا من أطلب، وهذا ما يشكل العديد من المشاكل عند كل طلعة أو عزيمة، فأمي من أنصار “نطلب أحسن” وأنا من أنصار “أكل البيت أحسن” ولا أعلم على من طلعت.
وحتى اثنين قادم بوجبات هنية وطعام طيّب ونكهات لا تنسى، إلى اللقاء يا أصدقاء.