في أقصى يمين قبة منزلنا في الصالة العلوية، تجلس حمامة وحيدة، لا تبارح مكانها تحت أي ظرف. أجدها فجرًا، وعصرًا، وقبل أن أنام في منتصف الليل. أجدها في كل المواسم، وتحت كل درجات الحرارة. صحيح أنها تجلس في الجهة التي لا تزورها الشمس، لكنها في مواجهة مروحة مكيّف والديّ، فإن نجت من حرارة الشمس بجلوسها في الظل، فلا أعلم كيف نجت من حرارة هواء مروحة جهاز التكييف. في البداية، لم أعلم أنها حمامة، وظننت بأنها إما قطعة كرتون علقت في حديد الحماية، أو قطعة قماش مهترئة سيئة الحظ، نسيت بعد حملة تنظيف للسطح. وما جعلني أتأكد من كونها حمامة؛ هلاوس أخي الأصغر بكونها عنكبوت عملاق هارب من عالم الوحوش، ففي كل يوم يجرني من يدي إلى الصالة ويقول:”سارة شوفي العنكبوت الكبير بياكلنا”، جعلتني تلك الجملة أمسك يده وآخذه معي لنكتشف ماهية الأمر، ليس كوني خائفة بالطبع من احتمالية صحة فرضية العنكبوت العملاق، وإنما لأثبت له بأن العناكب العملاقة ليست حقيقية، أو على الأقل ليست في سطحنا. بالتأكيد كنت على بعد ثواني من فقداني لعقلي بعد طيران الحمامة في لوجهي إثر اقترابي لها، حسبتها ميتة لعدم حركتها بالرغم من صوت أخي المرتفع، فاقتربت، وأجزم أننا تنفسنا نفس ذرات الهواء أنا وهي، حتى طارت في وجهي وأفزعتني مسببة إحراجًا لي أمام أخي الأصغر. ومنذ ذلك الحين، أوجه لها أنا وأخي السلام أثناء مرورنا تحت القبة.
أجد ذكر الحمام هذا مضربًا للمثل، فهو لم يتخل عن مكانه أبدًا، حتى في فترة التزاوج، اصطحب معه زوجته، يجلسان جنبًا إلى جنب، يتأملان جدار سطحنا البيج، ويصفعهما الهواء الحار من مروحة المكيف، لا أستطيع الجزم إن كان ذلك مكانًا مثاليًا لقضاء شهر العسل بالنسبة للحمام، إلا أنني أظنه يواكب متطلباتهما، فهما في مكانهما ذاك، لم يقابلا أي زوج حمام آخر، وبهذا نصل إلا أنهما زوج انطوائي بلا شك. وحتى بعد اضطرت الحمامة الأنثى لبناء عش في مكان آخر، لم يذهب معها زوجها، وإنما ضل في مكانه، كراهب يسكن معبدًا في أعلى جبل، إلا أن هذه الحمامة لم تفقد ريش رأسها بعد.
أجد ذكر الحمام هذا مضربًا للمثل باستمراريته، وبحزمه وشجاعته في مواجهة حياته بعد أن غادرته زوجته حاملًا لبناء العش. لم ييأس ولم يستسلم، ولم ينتحر بدخوله لقفص الدجاج الخاص بنا ليقتله الديك الغيور على زوجاته الدجاجات، وإنما أكمل عيشه بهدوء، ولم يتخل عن مكانه. ليتني حمامة أستمر في تذكر يوم الاثنين والكتابة له مسبقًا، فما زلت أتفاجئ بحلوله، ولا أجد ما أكتب عنه، وينتهي بي الحال للكتابة عن الحمام.
لست أنسى حلول يوم الاثنين بشكل حرفي، وإنما أنصاع لفكرة”اليوم إجازة، الاثنين بعيد” ولكن الاجازة تمتد وتمتد حتى يحل يوم الاثنين، واضطر للكتابة بشكل مستعجل حتى لا يمضي اليوم بدون أن تنزل فيه تدوينة. لا شيء أسوء من أن أقوم أنا نفسي بكسر روتيني المعتاد، والأشد سوءًا أن يكون ذلك بلا سبب هام. لذلك أتمنى لو كانت لدي صفة تلك الحمامة، حتى مسؤوليات الزواج لم ترغمها على كسر عاداتها.
وحتى يوم الاثنين القادم، وحتى أكتب تدوينة أكثر جدية من هذه، إلى اللقاء يا أصدقاء.
*حاشية
جميع المعلومات عن علاقة ذكر الحمام مبنية على تصورات مني، ولم أتأكد منه بشكل شخصي إن كانت تلك زوجته فعلًا أو أمه أو حتى صديقه.
